تدهور تاريخي لليرة اللبنانية وسط أزمة السيولة وإضراب المصارف

15 مارس 2023
انهيار الليرة يتزامن مع استئناف البنوك إضراباً مفتوحاً (حسين بيضون)
+ الخط -

في مشهد فوضوي يعبّر عن مدى الانهيار المالي والاقتصادي الذي وصل إليه لبنان، تدهورت العملة الوطنية، أمس الثلاثاء، إلى مستوى غير مسبوق، ليتجاوز سعر صرف الدولار 100 ألف ليرة في السوق الموازية (السوداء)، وسط توقعات بانزلاق البلاد إلى مزيد من الانهيار، في ظل أزمة سيولة حادة واستئناف المصارف إضراباً مفتوحاً، وشلل سياسي وعدم شروع السلطات في إصلاحات مالية.

ويُتهم المسؤولون في لبنان من قبل المجتمع الدولي بممارسة مماطلة متعمدة في معالجة أسباب الأزمة الاقتصادية المستمرة منذ أواخر عام 2019، رغم تكلفة التقاعس والتلكؤ والتأخير الباهظة على حياة المواطنين، والتحذيرات المتواصلة من انفجار اجتماعي كبير بات على الأبواب.

وراوح سعر صرف الدولار في السوق السوداء، صباح أمس الثلاثاء، بين 100 ألف و101 ألف ليرة، وسط تقلبات على مدار اليوم بالتزامن مع دخول إضراب المصارف حيز التنفيذ بعد قرارها العودة إلى الإقفال، اعتراضاً على الأحكام القضائية الصادرة ضد بعض البنوك لصالح قسمٍ من المودعين، وكذلك استئناف التحقيقات الأوروبية في ملف حاكم المصرف المركزي رياض سلامة وشبهات الجرائم المالية.

وزاد من خطورة تحليق الدولار، دخول البلاد مرحلة الدولرة التي طاولت قطاعات تجارية وسياحية وغذائية، وحتى طبية، رغم أنّ أكثرية اللبنانيين لا تزال تتقاضى رواتبها بالليرة، وتدفع ضرائب كبيرة، ما يضرب بشكل دراماتيكي قدرة المواطنين على الوصول إلى أبسط الاحتياجات المعيشية الأساسية، ويهدد أمنهم الغذائي والصحي بالدرجة الأولى.

تبعاً لذلك، انعكس ارتفاع الدولار تلقائياً على أسعار السلع والمواد الغذائية بعد قرار وزارة الاقتصاد والتجارة دولرة قطاع السوبرماركت (المتاجر) بذريعة لجم جشع التجار، والحد من أرباحهم الطائلة، علماً أن خطوتها فاقمت معاناة الناس، وفتحت أكثر شهية التجار، في ظل التسعير العشوائي حتى بالدولار، وغياب الرقابة وانعدام المحاسبة.

وشهدت البلاد أيضاً موجة غلاء غير مسبوقة على مستوى المحروقات التي زادت بشكل كبير، أمس، سيراً على خطى الدولار، مع تسجيل تراجع في حجم الاستهلاك، وهو حالُ جميع الخدمات الأساسية، صحياً، استشفائياً، التي تؤدي فواتيرها الباهظة إلى تراجع إشغال غرف المستشفيات، وخفض الطلب على الدواء، وكذلك الحال في الاتصالات والكهرباء وغيرها من القطاعات التي إما أصبحت مدولرة، أو تحتسب على سعر منصة "صيرفة" التابعة لمصرف لبنان التي بدورها تسير تصاعدياً، لأكثر من 75 ألف ليرة للدولار.

يقول وزير الاقتصاد والتجارة الأسبق آلان حكيم، في حديث مع "العربي الجديد"، إن "الدولرة عامةً، لها إيجابياتها وسلبياتها، إذ في الشق الإيجابي، من شأنها أن تؤمن استقراراً في الأسعار، وتخلق ثقة بالاقتصاد، وتخفّف أعباء التحويل والتبادل، لكن هذه النقاط كلها لا تنطبق على حالة لبنان، من هنا لا يمكن النظر إلى الدولرة إلا بتداعياتها السلبية الموجودة بالحالة اللبنانية".

ويضيف حكيم أن أهم النقاط السيئة لقرار الدولرة، تتمثل بفقدان استقلالية العملة الوطنية وسيادتها، إلى جانب تأثيرها في ارتفاع الأسعار، في ظل محدودية المراقبة من قبل الدولة اللبنانية، كما تفرض عدم مساواة بين المواطنين على صعيد القوة أو القدرة الشرائية، مستغرباً كيف تتخذ المنظومة السياسية مثل هذه القرارات من دون دراسة التأثير في القطاعات كافة.

وأشار إلى رفع الدولار الجمركي إلى 45 ألف ليرة، باعتباره خطوة نحو التضخم والتخزين الاستباقيين، ومزيدٍ من الآثار السلبية في بلد تغيب فيه الرقابة تماماً، بإقرار من المسؤولين أنفسهم، الذين يضعون الليرة بين فكي الدولار، ويفتحون الأبواب أمام التجار لتحقيق أرباح طائلة على حساب معاناة المواطنين.

ويعرب حكيم عن أسفه لوصول البلاد إلى "انحلال تام اقتصادياً ومالياً، وواقع يحوّل لبنان إلى أرضٍ خصبة لتبييض الأموال وتجارة المخدرات"، معتبراً أن "المشهد اليوم متوقع في ظلّ العجز التام والشلل الذي تفاقمت حالته على مرّ السنين، من دون أي موقفٍ اقتصاديٍّ واضحٍ، حيث إن اقتصاد البلاد لا يمكن أن يرتكز فقط على السياسة النقدية، من هنا، حذرنا من السقوط في الهاوية، كما يحصل راهناً".

في سياق الحلول، يرى وزير الاقتصاد السابق، أن هناك حاجة ماسّة لانتخاب رئيس للجمهورية، ما من شأنه أن يعطي مصدر ثقة للاقتصاد اللبناني والمالية اللبنانية، وإقرار قانون الكابيتال كونترول، الذي يقتضي البتّ به بسرعة، ولا سيما لفرض مراقبة وإدارة التحويلات من الخارج إلى لبنان والعكس، بعيداً من أي مصالح حزبية أو شخصية، إلى جانب ضرورة فتح نقاش واضح وصريح مع دائني الدولة، وبدء مسار الإصلاح وخطط الإنقاذ، وغيرها من القوانين الاستثنائية والتشريعات المالية الواجب إقرارها وتطبيقها.

ويزيد الشلل السياسي الوضع سوءاً، في ظل فراغ رئاسي منذ أشهر تدير خلاله البلاد حكومة تصريف أعمال عاجزة عن اتخاذ قرارات ضرورية، بينها إصلاحات يشترطها المجتمع الدولي لتقديم الدعم من أجل وقف النزف الحاصل. ومنذ انتهاء ولاية الرئيس ميشال عون في نهاية أكتوبر/ تشرين الأول الماضي، فشل البرلمان اللبناني 11 مرة في انتخاب رئيس جراء انقسامات سياسية عميقة، إذ لا يملك أي فريق أكثرية برلمانية تخوّله إيصال مرشح.

اقتصاد عربي
التحديثات الحية

ويرى الخبير الاقتصادي والمالي إيلي يشوعي، أن لبنان يعاني من أزمة توافر العملة، وأزمة عرض العملة، وأزمة فقدان هذه العملة، مشدداً على أن المطلوب فتح تحقيق جدي بمسألة "الدولار المفقود". ويقول يشوعي في حديثه مع "العربي الجديد" إن كل من يراهن على أي خارج أو أي مؤسسة مالية دولية لكي تنهض بلبنان مالياً، يكون اتكاله على سراب، فالمشكلة داخلية، والعيب كله داخلي.

ويشدد على أنه لا يمكن إعادة الاعتبار إلى الليرة اللبنانية قبل إعادة هيكلة المصارف، وهذه لا تبدأ إلا بتحديد الموجودات الجيدة، أي ما يملكه المصرف من أملاك مثلاً، والموجودات السيئة، أي الديون على القطاع الخاص، ولا سيما على القطاع العام، وتحديداً على مصرف لبنان والخزينة اللبنانية.

ويرى يشوعي أن المعالجة الوحيدة لمسألة انهيار قيمة العملة الوطنية وفقر اللبنانيين وإفلاس الدولة تكمن في قضاء سيد مستقل يقوم بكامل واجباته في التحقيق بكل الأموال التي قدمت للقطاع العام وأُعطيت له ومن ثم فقدت، ومحاسبة المسؤولين، وإلا فسنسير من السيّئ إلى الأسوأ، وصولاً إلى الانفجار الاجتماعي الكبير.

بدوره، يرى الباحث الاقتصادي ومؤسس "رابطة المودعين" نزار غانم، أن لا سقف لارتفاع سعر صرف الدولار، باعتبار أن سعر العملة في أي بلد مرتبط بميزان المدفوعات والميزان التجاري. أما في لبنان، فإن كمية الدولارات التي تخرج من البلد مقارنة بتلك التي تدخله، تحدد سعر الصرف، وبالتالي في ظل وجود اقتصاد وهمي في البلاد، لن يكون للارتفاع أي حدود.

ويرى غانم أن المشكلة الأساسية تكمن في عدم وجود خطة شاملة لإعادة هيكلة القطاع المالي وإعادة الانتظام إلى الأسواق المالية، علماً أن من شأن ذلك مكافحة التضخم وحماية المستهلك ورواتب الموظفين، وفي الوقت نفسه إيرادات الدولة.

ويضيف أنّ معالجة التضخم يجب أن تكون في صلب السياسة المالية، لكن الطبقة السياسية تعمل عكس ذلك، وتواصل تذويب الودائع لحماية المصارف وتذويب كل الدين الذي قامت بمراكمته على مرّ السنين، عدا عن سياساتها المالية التي تصبّ في مصلحة أصحاب الثروات، مع غياب تام لأي قرار سياسي يحفظ المجتمع ككل.

المساهمون