تدمير الاقتصاد الفلسطيني مستمر.. هكذا تدفع إسرائيل السلطة إلى الانهيار

16 يوليو 2024
يتفحصون دماراً في تل الهوى بعد انسحاب الاحتلال، غزة، 14 يوليو 2024 (محمود عيسى/ الأناضول)
+ الخط -

ليس خافياً بالمرة أن الاحتلال الإسرائيلي، متمثلاً، الآن، بحكومة بنيامين نتنياهو الأكثر تطرّفاً من سابقاتها، يسعى جاهداً لإلحاق أكبر الخسائر الممكنة بالفلسطينيين بشراً واقتصاداً، بعدما عجز حتى الساعة حتى تحقيق هدفه الأساسي المعلن، وهو إلحاق الهزيمة النكراء بالمقاومة وإحباط روح الصمود والتصدّي في صفوف أهل الأرض الراسخين فيها رغم كل ما ترتكبه آلة العدو من قتل ودمار بلا هوادة منذ أكتوبر/ تشرين الأول 2023. فما المنهجية التي يتبعها الاحتلال في تدمير الاقتصاد الفلسطيني حتى الساعة؟

تتوالى التحليلات والتقارير من الخبراء والمنظمات المتابعة لمجريات العدوان المستمر منذ أكثر من تسعة أشهر، وجديدها أمس الاثنين ما كتبه المؤرخ والأستاذ بمعهد العلوم السياسية في باريس جان بيير فيليو في صحيفة لو موند تحت عنوان "حرب بنيامين نتنياهو المالية ضد السلطة الفلسطينية"، ليخلص بنتيجته إلى أنّ الحكومة الإسرائيلية تعمد إلى شل السلطة الفلسطينية مالياً، من خلال حجب الإيرادات التي ينبغي تحويلها إليها تلقائياً.

وأشار إلى أن نتنياهو لا يزال مفتقراً إلى خطة واضحة لما يسمّى "اليوم التالي" في غزة، فيما من الواضح أن لديه مصلحة كاملة في إطالة أمد الأعمال العدائية لأطول فترة ممكنة، مع احتمال إعادة انتخاب دونالد ترامب رئيساً للولايات المتحدة في نوفمبر/ تشرين الثاني المقبل، والذي دعمه من دون قيد أو شرط خلال السنوات الأربع التي قضاها في البيت الأبيض خلال ولايته السابقة، ليضيف أن رئيس الوزراء الإسرائيلي يعرف أيضاً أن إطالة أمد الصراع تحميه من الإجراءات القانونية الثلاثية ضده (الفساد والاحتيال وخيانة الأمانة) ومن لجنة التحقيق التي ستحقق في أسباب انهيار أمن إسرائيل في عملية "طوفان الأقصى" التي نفذتها المقاومة في السابع من أكتوبر الماضي.

ويعتقد فيليو أن الحملة العسكرية الإسرائيلية ضد حماس في غزة، والتي أودت بحياة أكثر من 38 ألف شخص خلال تسعة أشهر، كانت مصحوبة بقمع مكثف في الضفة الغربية المحتلة، حيث استُشهد نحو 600 فلسطيني في الفترة نفسها، لكن نتائج حدة هذا العنف، الذي يلعب فيه المستوطنون دوراً حاسماً بالتواطؤ مع الجيش الإسرائيلي، تتفاقم بسبب الضغوط المالية الشديدة على السلطة الفلسطينية وهي ضغوط أصبحت أكثر شدة بعدما أسند نتنياهو حقيبة وزارة المالية إلى بتسلئيل سموتريتش الذي لا يُخفي رغبته في استعمار الضفة الغربية وقطاع غزة بشكل كامل، مع إشارة هذا الخبير إلى أن "من عجيب المفارقات هنا أن اتفاقات السلام الموقعة بين إسرائيل ومنظمة التحرير الفلسطينية في الفترة بين 1993 و1995 هي التي وجد فيها نتنياهو وسموتريتش السلاح اللازم لإركاع السلطة الفلسطينية مالياً".

منهجية الاحتلال لتدمير الاقتصاد الفلسطيني

لكن السؤال يبقى حول المنهجية التي انطلقت منها حكومة نتنياهو لدفع السلطة الفلسطينية وبالتالي الاقتصاد الفلسطيني إلى حافة الانهيار المالي. وهذا ما سعت داليا العزة وشهزاد الدين في تقرير مشترك نشرته منصة شبكة "زد" (Z) المستقلة يوم الأحد، وفيه يتطرقان إلى هذه السردية انطلاقاً من إعلان وزير المالية القومي المتطرف سموتريتش في مايو/ أيار الماضي، أنه سيحجب عائدات الضرائب المخصصة لفلسطين، وذلك رداً على اعتراف إسبانيا وأيرلندا والنرويج بالدولة الفلسطينية.

كذلك عمد إلى خصم هذه الإيرادات، وهدّد بقطع علاقة البنوك الفلسطينية بنظيراتها الإسرائيلية، في خطوة من شأنها، إن حصلت، وقف جميع المعاملات المالية الخارجية ومنع استيراد العديد من السلع الأساسية إلى الأراضي الفلسطينية. وكل ذلك يأتي في وقت تعاني فيه السلطة التي تمثل الهيئة الحكومية التي تمارس سيطرة جزئية على الضفة الغربية المحتلة وبالتالي الاقتصاد الفلسطيني من أزمة مالية حادة.

فوفقاً لتقرير نشره البنك الدولي في أواخر مايو الفائت، فإن الوضع المالي للسلطة "تدهور بشكل كبير" في الأشهر الثلاثة السابقة، بما يزيد من احتمال حدوث "انهيار مالي وشيك". كذلك يعاني الاقتصاد الفلسطيني أصلاً من البطالة والفقر. وخلال الأشهر التسعة الماضي، فُقد نحو نصف مليون وظيفة في الضفة الغربية وقطاع غزة. وفي العاشر من يوليو/ تموز الجاري، قالت مجموعة من خبراء حقوق الإنسان المستقلين المفوضين من الأمم المتحدة إن المجاعة تنتشر في جميع أنحاء غزة، في حين أن الانهيار المالي للسلطة لن يؤدي إلا إلى مفاقمة الأوضاع نحو الأسوأ.

تجدر الإشارة إلى أن لإسرائيل سيطرة مالية راسخة على السلطة الفلسطينية. فبموجب اتفاقيات السلام الموقعة في تسعينيات القرن العشرين، تجمع وزارة المالية الإسرائيلية الضرائب نيابة عن الفلسطينيين وتقوم بتحويلات شهرية إلى السلطة الفلسطينية. لكن إسرائيل توقفت عن إجراء التحويلات بعد وقت قصير من بدء الحرب، واحتجزت أموالاً تتراوح بين 60% و70% من إجمالي قيمة الموازنة العامة الفلسطينية.

ولا يتأثر الناس في الضفة الغربية فقط. فقد طردت حماس السلطة الفلسطينية من قطاع غزة عام 2007. لكن العديد من العاملين في القطاع العام في القطاع احتفظوا بوظائفهم واستمروا في الحصول على رواتبهم من عائدات الضرائب المحولة. لكن إسرائيل حجبت المدفوعات المخصصة لهؤلاء الموظفين في قطاع غزة أيضاً على أساس أن الأموال قد تقع في يد حماس.

ثم، في العاشر مايو، ومؤخراً في يونيو/ حزيران الماضي، أعلن سموتريش أنه سيخصم 35 مليون دولار و46 مليون دولار على التوالي من عائدات الضرائب المستحقة للسلطة الفلسطينية. وزعم تقرير البنك الدولي أن خصم شهر مايو وحده أدى إلى زيادة "مخاطر الانهيار الشامل المحتمل". وتواجه السلطة الفلسطينية الآن فجوة تتسع بسرعة بين الإيرادات الواردة والمبلغ اللازم للنفقات العامة الأساسية. وقد وصلت هذه الفجوة التمويلية إلى 682 مليون دولار، ومن المتوقع، وفقاً لتقرير البنك الدولي، أن تتضاعف خلال الأشهر المقبلة إلى 1.2 مليار دولار.

وفي مايو المنصرم، لم تتمكن السلطة من دفع رواتب العاملين في القطاع العام إلا بنسب بين 50% و70% من رواتبهم. كما أنها عاجزة عن سداد المستحقات المتوجبة عليها للبنوك المحلية، بما يزيد اعتمادها على المساعدات الخارجية لسداد ديونها.

إسرائيل تمارس الابتزاز المالي بحق السلطة الفلسطينية

في 28 يونيو، تعززت الآمال بأن تتمكن السلطة من تجنب الانهيار، حيث أعلن سموتريتش أنه سيوقع أخيراً على عدم تجميد عائدات الضرائب على مدى الأشهر الثلاثة الماضية وتمديد الإعفاء الذي يسمح بالتعاون بين البنوك الإسرائيلية والفلسطينية. لكن ذلك سيأتي مقابل الموافقة بأثر رجعي على خمس بؤر استيطانية في الضفة الغربية جرى بناؤها بالفعل، علماً أن البؤر أو المستوطنات تُعتبر غير قانونية بموجب القانون الدولي من قبل الغالبية العظمى من المجتمع الدولي.

وقد أثارت الخطوة الجديدة التي اتخذتها الحكومة انتقادات من الفلسطينيين، وكذلك الولايات المتحدة والمملكة المتحدة. وفي 30 يونيو، قال متحدث باسم وزارة الخارجية والكومنولث والتنمية البريطانية إن "المملكة المتحدة تعارض بشدة الإعلان عن إضفاء الشرعية على خمس بؤر استيطانية في الضفة الغربية، فضلاً عن اتخاذ المزيد من الإجراءات العقابية ضد السلطة الفلسطينية".

لكن في غضون الأيام القليلة التالية، أعلنت إسرائيل أنها وافقت على الاستيلاء على أكثر من 12 كيلومتراً مربعاً من الأراضي الفلسطينية في الضفة الغربية المحتلة، في أكبر عملية استيلاء على الأراضي منذ عام 1993، وتأتي في أعقاب سلسلة من عمليات الاستيلاء المماثلة على الأراضي في جميع أنحاء الضفة الغربية خلال العامين الماضيين.

ففي عام 2023، على سبيل المثال، أنشأت إسرائيل رقماً قياسياً بلغ 26 مستوطنة في الضفة الغربية، ما أجبر 21 مجتمعاً فلسطينياً على ترك منازلهم. وإلى جانب السيطرة المالية الأكبر، التي جعلت السلطة الفلسطينية تجثو على ركبتيها، ينبغي النظر إلى عمليات الاستيلاء على الأراضي هذه باعتبارها جزءاً من هدف إسرائيل الأوسع المتمثل في السيطرة على المزيد من أراضي الضفة الغربية ومنع تطوير دولة فلسطينية.

تحذير أميركي بعد فوات الأوان؟

في توبيخ نادر لإسرائيل، حذرت وزيرة الخزانة الأميركية جانيت يلين مطلع يونيو/ حزيران الماضي، من أن خططها لعزل المؤسسات المالية الفلسطينية عن النظام المصرفي العالمي من شأنها أن تهدد استقرار الاقتصاد الفلسطيني في الضفة الغربية.

لكنّ تحذيرها ربما جاء بعد فوات الأوان لموقف وزير المالية الإسرائيلي اليميني المتطرف، بتسلئيل سموتريش الذي لا يزال عازماً على تقويض آخر بقايا الحكم الذاتي المحدود بالفعل للسلطة في الضفة.

المساهمون