منذ أن أُنشئت منظمة بريكس (BRICS)، وهي تكتل يضم 5 دول تعد صاحبة أسرع نمو اقتصادي في العالم، وهي البرازيل وروسيا والهند والصين وجنوب أفريقيا، أو حتى منذ أن بدأ التفكير بتكوين تعاون استثماري بين الصين والهند وروسيا والبرازيل عام 2006، وتشعر الإدارة الأميركية بأن هذا الترتيب الجديد قد ينطوي على ضغوط اقتصادية عليها.
ولكن هذا الشعور تعمق بعد عام 2008. والسبب أن الدول الأربعة الأخيرة عانت من جراء تدهور السوق المالية (البورصة) في الولايات المتحدة بسبب انهيار بورصات الإسكان، ومن ثم تراجع أسعار العقار والأسهم في الاقتصاد الأميركي الكلي. وكثر الجدل حول انتقال الأزمة من "وول ستريت"، أو شارع المال الأميركي إلى رِيلْ ستريت Real Street أو شارع السلع والخدمات. وفي نهاية عام 2008، جرت انتخابات رئاسية وتشريعية في الولايات المتحدة، وأتت برئيس جديد هو باراك أوباما من الحزب الديمقراطي بعد انتهاء فترتي جورج بوش الجمهوري.
ولأغراض فهم التطورات التي حصلت، فقد عَقَد رؤساء دول البريكس الأربعة قمة في مدينة "يكاترينبورغ" في روسيا في شهر يونيو (حزيران) في عام 2009 لأول مرة. وفي ذلك العام، وبضغط من هذه الدول، أصدرت منظمة مؤتمر التنمية والتجارة "UNCTAD" في سويسرا تقريراً دعت فيه إلى ضرورة إصلاح نظام النقد الدولي الذي يقف على رجل واحدة (الدولار). وطالبت بخلق نظام متعدد العملات الرئيسية.
ولما دخلت دولة جنوب أفريقيا عضواً في تجمع البريكس عام 2010، نادى الرؤساء الخمسة في مؤتمر القمة الذي عقدوه في شهر إبريل (نيسان) عام 2011 بمدينة سانيا في الصين بالتأكيد على الفكرة نفسها. وقد شجعهم أكثر على ذلك قيام الرئيس الأميركي بضخ حوالي (800) مليار دولار في البنوك والمؤسسات المالية الأميركية جزءاً من حل الأزمة المالية ونتائجها.
وقد كان هذا الخيار لإدارة "أوباما" ناتجاً عن إفلاس بنوك مثل "ليمان براذرز"، وتعرض بعض كبار البنوك مثل "بانك أوف أميركا"، وبنك "سانتا في"، ومجموعة "سيتي" المصرفية إلى أزمة مالية استدعت إنقاذها. وقد اضطربت السوق، وصارت تتصرف صعوداً وهبوطاً كمن أصابه مَسٌّ من الشيطان. وقد شعر شركاء الولايات المتحدة الكبار، ومنهم دول "البريكس" بأن إصدار هذا الحجم الكبير من الدولارات، قد أدى إلى تخفيض سعر الدولار، وتراجع أسعار الفائدة عليه، ما قلل من عوائد الاستثمارات السيادية لهذه الدول في الأوراق المالية والسندات الصادرة بالدولار الأميركي.
وقد كررَّت منظمة الأمم المتحدة في نيويورك عام 2010 ما سبق وقالته منظمة الانكتاد في جنيف من ضرورة إصلاح نظام النقد الدولي، ووضع نظام جديد غير مرتكز على الدولار وحده، والتفكير بخلق مناطق عملات جديدة في كل من المحيط الهادئ والاتحاد الأوروبي.
لقد سبق لهذه الفكرة أن طرحت، وبإلحاح، على المستوى النظري من قبل الاقتصادي الفائز بجائزة نوبل والأستاذ بجامعة كولومبيا روبرت مونديل، والذي دعا إلى خلق هذه المناطق الثلاث، مثبتاً أن نظاماً كهذا أجدى وأصح للاقتصاد الدولي وتيسير معاملاته، وقد عمل روبرت مونديل لفترة مستشاراً اقتصادياً للصين، وله تلاميذ صينيون درسوا نظرياته.
ولكن ردة فعل الإدارة الأميركية على كل هذه المقترحات كانت غاضبة. وقد هددت الإدارة الأميركية على ألسنة بعض وزرائها ومسؤولين في البيت الأبيض بأن هذه قضية تقع خارج اختصاص الأمم المتحدة، وأن أميركا قد توقف دعمها وتتأخر في تسديد اشتراكاتها (نحو 19% من الموازنة عام 2010). واعتبرت استمرار البحث في هذا الموضوع إساءة بالغة للاقتصاد الأميركي، وسوف يحدث فوضى عارمة داخل الاقتصاد الدولي.
أما الآن، ونحن في عام 2023، وبعدما ضخت الولايات المتحدة حوالي تريليوني دولار في الاقتصاد العالمي، فقد غيرت -منذ عهد الرئيس أوباما- سياساتها للدفاع عن الدولار. وقد نتج عما سمي "بالتسهيل الكمي" أو بالإنجليزية Quantitative Easing أن بدأ سعر الدولار يعاني، وبدأت الأسعار في الولايات المتحدة في الصعود، خاصة بعد الضغوط الناجمة عن انتشار وباء كوفيد-19 (كورونا) وعقب اندلاع الحرب الأوكرانية، واستعار الحرب الباردة في أماكن متعددة في العالم، أهمها بحر الصين في المحيط الهادئ، وفي جبال الهملايا بين الصين والهند، وفي الشرق الأوسط بين غزة وإسرائيل، وغيرها من المشكلات التي رفعت الأسعار عالمياً.
ولذلك، قامت الولايات المتحدة بالتخلي عن سياسة التخفيف الكمي، واستبدالها بسياسة "نقدية" أكثر تشدداً تتمثل في رفع أسعار الفوائد بقرارات أحادية من قبل مجلس الاحتياط الفيدرالي. وقد رفعت أسعار الفوائد إحدى عشرة مرة خلال عامي 2022 و2023، وصل مجموعها إلى (350) نقطة أساس.
وبسبب الحرب الإلكترونية، وحرب العملات، وحرب النفوذ في أماكن كثيرة في العالم، وزيادة التوترات والحروب بالإنابة، فإن إبقاء الأمور العسكرية والسياسة النقدية في يد دولة واحدة أصبح مرفوضاً من دول صارت أقطاباً بعد فترة بيات طويلة استثمرتها الولايات المتحدة بكل قوة. لقد برزت الآن دول ترفض تلك القطبية الأحادية خاصة الصين وروسيا، عدا عن دول ترى أنها جديرة بذلك مثل الهند والبرازيل.
وقد تجمعت هذه الأقطاب في منظمة "البريكس"، وصارت توسع دورها، وتنوع في مؤسساتها أملاً في خلق نظام اقتصادي جديد مواز لنظام المؤسسات الدولية الحالية، وتتعامل بطرق جديدة تخرج الدولار من معاملاتها باعتباره وسيطاً ومقياساً لأسعار العملات، ووسيلة للدفع، وحتى وحدة لعمل المقاصة الدولية.
وقد قامت "بريكس" حتى الآن بخلق مؤسسات جديدة تسعى لخلق نظام اقتصادي مالي دولي جديد. وهذه المؤسسات قد بدأت عملها بدون ضجيج أو محاولة لتعطيل دور المنظمات الدولية النظيرة لها.
فقد أنشئ بنك التنمية الجديد والذي سمي ببنك آسيا التنموي في البداية. ورغم الضغط الأميركي لمنع الدول من الاشتراك فيه، فإن معظم الدول أعضاء فيه، وهو يقوم بتقديم قروض يُحول معظمها من الصين لتزويد الدول بالمال للبنى التحتية، خاصة إذا كانت ضمن مشروع الطريق والحزام.
وأنشأت ترتيباً جديداً لدعم الاحتياطات الأجنبية أطلق عليه اسم Contingent Reserve Arrangement، وهو بديل عن دور أساسي يقوم به صندوق النقد الدولي، والثالث هو نظام بريكس للمدفوعات، والرابع هو دار نشر الإحصاءات لدول البريكس، والخامس والأخطر هو إنشاء سلة عملات جديدة للدول الأعضاء في بريكس.
ولو تمعّنا في هذه المؤسسات لرأينا أنها تواجه منظمات دولية أساسية وهي البنك الدولي، وصندوق النقد الدولي، وإحصاءات الأمم المتحدة، ونظام المدفوعات الذي يمكن تطويره لإحداث نظير لنظام سويفت SWIFT الأميركي، ونظام آخر للتخلي عن الدولار في تسديد المدفوعات بين الدول، واستبداله بوحدة نقد جديدة تقوم على احتياطات دول البريكس.
وقد تقدمت الآن حوالي 12 دولة للعضوية في منظمة "البريكس". وسمى وزير خارجية جنوب أفريقيا، في تصريح له، مؤخراً، سبع دول تقدمت بطلب العضوية، وهي المملكة العربية السعودية، ومصر، والإمارات العربية المتحدة، والجزائر، والأرجنتين والمكسيك، ونيجيريا، ونحن نعلم أيضاً أن إيران قد تقدمت بطلب العضوية.
كل هذه الترتيبات سيكون لها تأثير على الوطن العربي وتعاملاته خاصة، لأنه أكبر شريك تجاري للصين، ومن بعدها الهند. وسيكون لها تأثير مباشر على مستقبل النظام النقدي العالمي، والذي لا يمكن إصلاحه بدون تنازلات أميركية عن دور العملاق الأخضر "الدولار" وحجم التعامل به.