أفرزت الانتخابات النيابيّة التي جرت مؤخرًا في لبنان توازنات جديدة داخل البرلمان، بعد أن دخلته ما باتت تُعرف بقوى التغيير لأوّل مرّة بكتلة وازنة بلغ عددها الستة عشر نائبًا، فيما تراجع عدد نوّاب حزب الله وحلفائه بشكل لافت، ليفقد بذلك هذا المعسكر السياسي سيطرته المطلقة على المجلس النيابي.
وحتّى اللحظة، ما زال الخلاف حول الغالبيّة النيابيّة قائمًا بين الأطراف السياسيّة، التي تتباين أرقامها بحسب كيفيّة تصنيف أو فرز النوّاب الجدد، وهو ما يصعّب مهمّة فهم الاصطفافات الجديدة داخل المجلس.
لكن ورغم صعوبة ذلك، يبقى من الأكيد أن كتلة قوى التغيير الوافدة إلى البرلمان ستكون قادرة على لعب دور أساسي في جميع الاستحقاقات التشريعيّة المقبلة، وخصوصًا تلك التي تُعنى بالإصلاحات الماليّة والاقتصاديّة المطلوبة للخروج من نفق الانهيار الحاصل، والتي لطالما عرقلتها المصالح المتجذّرة داخل المنظومة السياسيّة التقليديّة.
مع الإشارة إلى أنّ أهميّة الدور الذي يمكن أن تلعبه كتلة قوى التغيير تكمن في مجيء هؤلاء النوّاب من خارج الأحزاب الطائفيّة المتحكمة في مفاصل النظام السياسي، والتي لطالما تشابكت أولويّاتها وحساباتها مع كبار المتموّلين والمصرفيين، بما يتعارض مع شروط التصحيح المالي الذي تحتاجه البلاد.
ورغم كل التفاؤل الذي أحاطه الرأي العام بنمو الحالة الاعتراضيّة داخل البرلمان، من ناحية الدور الذي ستلعبه في الملفّات التشريعيّة المتصلة بمسار التعافي المالي، من المؤكّد أن ثمّة تحديات كبرى ستواجه المجلس النيابي بأسره فور البدء بعقد جلسات مناقشة مشاريع القوانين.
ولعلّ أبرز هذه التحديات يكمن في عدد الاستحقاقات التشريعيّة الداهمة، التي ستفرض نفسها خلال مهلة قصيرة لا تتجاوز الأشهر المعدودة، في ملفات اقتصاديّة حسّاسة جدًّا.
وجميع هذه الملفّات تُعنى تحديدًا بالمصالح التي استماتت مراكز النفوذ الماليّة والسياسيّة لحمايتها خلال السنوات الماضية، ولو على حساب الإصلاحات التي ينتظرها اللبنانيّون.
وهذا تحديدًا ما سيفجّر استقطابات قاسية حول هذه الملفّات داخل المجلس النيابي خلال الأشهر المقبلة، تمامًا كما جرى في عدّة محطات خلال ولاية المجلس النيابي السابق.
أول الملفّات الداهمة الذي سيتعامل معه المجلس النيابي المقبل، سيكون اقتراح تعديل قانون السريّة المصرفيّة، الذي أرسلته الحكومة مؤخّرًا إلى البرلمان، امتثالًا لشروط صندوق النقد الدولي.
وهذه التعديلات إذا تم إقرارها، ستمس بشكل مباشر بمصالح كبار المتمولين في البلاد، لكونها ستسمح ببساطة برفع السريّة المصرفيّة لغايات مكافحة التهرّب الضريبي، ومكافحة الجرائم الماليّة.
وعند الحديث عن الجرائم الماليّة، وخصوصًا جرائم الإثراء غير المشروع، فنحن نشمل حكمًا كتلة ضخمة من الصفقات المشبوهة التي تغذّت من الأموال العامّة، والتي ذهبت إلى جيوب رجال الأعمال والمقاولين المحسوبين على النظام السياسي وأحزابه.
باختصار، لن تكون مناقشة التعديلات القانونيّة المرتبطة بالسريّة المصرفيّة نزهة يسيرة بالنسبة للقوى التغييريّة أو الإصلاحيّة، التي يُفترض أن تحرص على تمرير هذه التعديلات لأهميّتها على مستوى الشفافيّة الماليّة أولًا، ولكونها باتت شرطا من شروط صندوق النقد قبل الانتقال إلى التفاهم النهائي معه.
وهذه القوى، ستستفيد بلا شك من عامل ضغط الصندوق، الذي فرض على الحكومة إرسال مقترح التعديلات القانونيّة إلى المجلس النيابي، كما سيلعب هذا الضغط دورًا في دفع بعض القوى السياسيّة التقليديّة باتجاه عدم عرقلة هذه التعديلات.
ومع ذلك، من الأكيد أن حجم استفادة كبار المتمولين من قانون السريّة المصرفيّة سيدفعهم إلى تحريك كل ما يمكن تحريكه من لوبيات داخل المجلس النيابي، لعرقلة مسار تعديل هذا القانون.
ثاني الاستحقاقات التشريعيّة الداهمة، التي ستواجه النوّاب الجدد، ستتمثّل في مناقشة مشروع قانون "الكابيتال كونترول"، أي مشروع القانون الذي يفترض أن ينظّم ويقونن الضوابط على التحويلات والسحوبات المصرفيّة.
ومشروع القانون هذا، سيفرض نفسه سريعًا على جدول أعمال المجلس الجديد، لكون آخر مسوداته موجودة أساسًا قيد المناقشة في لجان المجلس النيابيّة.
التحدّي الكبير هنا، يتمثّل في الضغط الذي يمارسه القطاع المصرفي حاليًّا لإقرار القانون بصيغة ركيكة، تقتصر مفاعيلها على تشريع عمليّة حبس الودائع وضبط السحوبات النقديّة والتحويلات إلى الخارج، بهدف حماية المصارف من الدعاوى القانونيّة محليًّا وفي الخارج.
في المقابل، من الواضح أن حماية حقوق المودعين تقتضي عدم إقرار القانون إلّا بالتوازي مع إقرار خطّة التعافي المالي، بحيث تقترن قوننة الضوابط على السيولة المصرفيّة بضمانات تؤكّد سير القطاع المصرفي على طريق التعافي لاحقًا، وصولًا إلى استعادة حقوق المودعين.
وهنا، بإمكان "الكابيتال كونترول" أن يكون أداة لتدير الدولة ما تبقى من سيولة في النظام المالي، في ضوء خطة التعافي، وبشكل مؤقّت يسمح برفع الضوابط على السيولة بشكل متدرّج، تمهيدًا لاستعادة حقوق المودعين.
باختصار، سيكون النوّاب مجددًا، وخلال أسابيع قليلة، أمام ضغط اللوبي المصرفي لإقرار القانون كيفما اتفق، وبأقل قدر ممكن من الضمانات للمودعين، في مقابل سعي روابط المودعين والنقابات التي تملك ودائع داخل المصارف لحماية حقوقها، ومنع تشريع أو قوننة امتناع المصارف عن الدفع للمودعين قبل إنجاز خطّة التعافي المالي وضمان الخطة حقوق المودعين.
وسيكون على النوّاب هنا الدخول في تقنيّات ماليّة متشعّبة، لتحديد نطاق الضوابط القانونيّة على أموال المودعين، وكيفيّة تكاملها مع عناصر خطة التعافي الأخرى المرتبطة بتوحيد أسعار الصرف، والتي تتصل بشكل وثيق بكيفيّة إدارة ما تبقى من سيولة في النظام المالي.
خلال أشهر، وبحسب اتفاق الحكومة مع صندوق النقد، يُفترض أن يُناقش البرلمان استحداث مديريّات جديدة للتحقق من الضرائب المتأخرة على كبار المكلّفين ضريبيًّا، وتتبع المستحقات الضريبيّة عليهم في المستقبل، بالاستفادة من التعديلات على قانون السريّة المصرفيّة.
وجميع هذه الأفكار، ترتبط بدورها بمصالح المتموّلين الذي يسيطرون اليوم على مفاصل الاقتصاد اللبناني، وعلى لوبيات مؤثّرة داخل البرلمان، وهو ما سيعني خلق تجاذب حاد حول جميع هذه الأفكار.
وخلال أشهر أيضًا، سيكون على المجلس النيابي مناقشة قانون الطوارئ لإعادة هيكلة القطاع المصرفي، الذي طلبه صندوق النقد كنص تشريعي من الحكومة اللبنانيّة.
وهذا القانون بالتحديد، سيكون من شأنه تحديد الآليّة التي ستتحمّل بموجبها رساميل المصرفيين نصيبها من خسائر الانهيار المالي، وتحديدًا في ما يخص الخسائر المتراكمة في الميزانيّات المصرفيّة.
وهنا مجدّدًا، من المرتقب أن تبرز الاستقطابات الحادّة حول هذا الملف بالتحديد، الذي خاضت لأجله جمعيّة المصارف حروبا مضنية في الماضي، وخصوصًا في وجه حكومة حسّان دياب التي حاولت الذهاب باتجاه شطب الرساميل للتعامل مع الخسائر.
مع الإشارة إلى أن تلك التجربة أثبتت حجم التأثير الذي تملكه جمعيّة المصارف داخل المجلس النيابي، وفي أوساط كتل الأحزاب التقليديّة البرلمانيّة، وهو ما سمح للجمعيّة بإسقاط الخطّة يومها.
يُضاف إلى كل هذه المواضيع، ما يتجه إليه العديد من النوّاب في ما يخص ملفّات عديدة أخرى، كالضغط على الحكومة المقبلة لحسم مسألة حاكميّة المصرف المركزي ومصير الحاكم الحالي، المُلاحق بتحقيقات قضائيّة خطرة في لبنان وأربع دول أوروبيّة أخرى.
بالإضافة إلى الضغط على الحكومة لمشاركة المجلس النيابي تفاصيل مفاوضاتها مع صندوق النقد، لكشف خبايا الخطة الماليّة التي يتم إعدادها أمام الرأي العام.
وكل هذه النقاط الحسّاسة، بالإضافة إلى كل الاستحقاقات التشريعيّة الداهمة التي ذكرناها، ستجعل من البرلمان كتلة من النار الملتهبة، نتيجة الانقسام المتوقّع حول هذه المواضيع.