يفتح اتجاه السلطة التونسية لتصفية أصول شركات حكومية صفحة جديدة في سجل الصراع مع الاتحاد العام التونسي للشغل الذي يستمد جزءاً من نفوذه من قوة نقاباته القطاعية التي تشمل نحو 111 مؤسسة عمومية تديرها الدولة وما يقرب من مليون عضو، بينما يزداد الوضع الاجتماعي في البلاد تعقداً مع تفاقم الغلاء وتنامي البطالة وتراجع الموارد الدولارية.
وأعلن الاتحاد العام التونسي للشغل على لسان أمينه العام نور الدين الطبوبي نيته التصدي لأي محاولات لإحالة المؤسسات الحكومية للقطاع الخاص في إطار خطة الإصلاح الاقتصادي المتفق عليها مع صندوق النقد الدولي.
وأول من أمس، قال الأمين العام لاتحاد الشغل ذو النفوذ القوي في تونس إن الحكومة تعهدت لصندوق النقد الدولي ببيع بنك الإسكان المملوك للدولة، وهو مصرف تجاري وعقاري تأسس عام 1973 وبيع مصنع تبغ عمومي، مضيفاً أن الاتحاد سيتصدى لذلك.
وتقوّض نية الحكومة بيع أصول عدد من مؤسسات القطاع العام محاولات السلطة فرض سلم اجتماعي مع النقابات لضمان تمرير الإصلاحات الاقتصادية، وذلك عقب توقيع اتفاق في زيادات أجور موظفي القطاع الحكومي في سبتمبر/ أيلول الماضي.
مخاوف اتحاد الشغل
قبل الذهاب إلى المفاوضات مع صندوق النقد الدولي بشأن اتفاق التسهيل وقّعت حكومة نجلاء بودن اتفاق زيادة في رواتب أكثر من 670 ألف موظف في القطاع الحكومي بنسبة 3.5 بالمائة تصرف مقسطة على ثلاث سنوات، رغم توصيات الصندوق بكبح كتلة الأجور.
وتوصلت الحكومة هذا الشهر إلى اتفاق مع صندوق النقد على مستوى الخبراء بشأن قرض قيمته (1.9 مليار دولار) مقابل حزمة إصلاحات، من بينها خفض دعم الغذاء والطاقة وإعادة هيكلة شركات عامة تعاني عجزاً.
يعتبر الخبير الاقتصادي رضا الشكندالي أن تكتم الحكومة على برنامج إصلاح المؤسسات الحكومية يثير مخاوف الاتحاد العام التونسي للشغل، مؤكداً أن الانشغال بشأن مصير آلاف الموظفين قد يدفع النقابات إلى الاحتجاج ويهدد السلم الاجتماعي.
وقال الشكندالي في تصريح لـ"العربي الجديد" إن بيع أصول الشركات العامة يجب أن يكون مصحوباً ببرنامج يضمن حقوق الموظفين، سواء بالاتفاق مع المشتري على تعويضهم مالياً أو عدم تسريحهم أو إعادة تشغيلهم في مؤسسات أخرى، لافتاً إلى أن النقابات ستلجأ إلى كل الوسائل من أجل الدفاع عن حقوق منظوريها.
وأضاف أن غياب هذه الضمانات وعدم التفاوض مع الاتحاد العام التونسي للشغل بشأن خطة التفويت قد يقوّض عملية الإصلاح برمتها.
ووفق الشكندالي فإن إدارة السلطات لملف المؤسسات الحكومية يتضمن العديد من الأخطاء، ومنها اختيار المؤسسات المزمع بيعها وطريقة التفويت فيها، معتبراً أنه من غير المجزي بيع أصول مؤسسات تعاني من صعوبات مالية وسوء حوكمة.
وأضاف أن بنك الإسكان الذي تنوي الحكومة التفويت في أصوله يحقق أرباحاً جيدة بعد عملية الهيكلة التي خضع لها عام 2017، في المقابل تواصل تونس الاحتفاظ بمؤسسات أخرى تتلقى دعماً حكومياً ما يثقل كاهل المالية العامة.
وقبل أيام، قالت مديرة صندوق النقد الدولي كريستينا جورجيفا إن "تونس تعمل على خصخصة بعض المؤسسات"، مشيرة إلى أن "المبادرة جاءت من الجانب التونسي، حيث أبدى رغبته في خصخصة بعض المؤسسات العمومية".
وتابعت جورجيفا في حوار مع قناة "سكاي نيوز" أن "هذا إنجاز مستحق بامتياز للحكومة التونسية"، معتبرة أن "برنامج الإصلاحات الهيكلية سيجعل الاقتصاد التونسي أكثر قوة وحيوية ويخلق فرص عمل أكثر، مما سيسهل على رواد الأعمال الحصول على التمويل والفرص المتاحة".
كسر الخطوط الحمراء
حسب مراقبين، يؤكد تصريح مديرة صندوق النقد الدولي أن سلطات تونس تتجه بخطى متسارعة نحو كسر كل الخطوط الحمراء التي يضعها الاتحاد العام التونسي للشغل بشأن بيع المؤسسات الحكومية التي تعتبرها النقابات جزءاً من مقدرات التونسيين.
ورغم التكتُّم التام على المؤسسات المرجحة للخصخصة، فإن مصدراً مطلعاً على الملف أكد لـ"العربي الجديد" أن المبلغ المرجح تحصيله من خصخصة بنك الإسكان ووكالة التبغ والوقيد يصل إلى نحو 9 مليارات دينار (2.77 مليار دولار).
وبنك الإسكان هو مصرف تجاري وعقاري تأسس عام 1973 باسم الصندوق القومي للادخار السكني، وكان نشاطه موجهاً أساساً لتمويل قطاع التطوير العقاري.
أما وكالة التبغ التي تأسست عام 1964 فهي مؤسسة حكومية تسيطر حصرياً على إنتاج وتسويق التبغ والوقيد وأوراق اللعب وبارود بنادق الصيد.
وتسيّر الدولة نحو 111 شركة ومنشأة عمومية، وهي مؤسسات تؤمن في الغالب خدمة الشراءات العمومية للمواد التموينية الأساسية، ومنها الحبوب والدواء والمحروقات، إلى جانب خدمات النقل البري والجوي والبحري.
وتواجه أغلب هذه المؤسسات صعوبات مالية تسببت في ارتفاع مستوى ديونها إلى 6.5 مليارات دينار (مليارا دولار) بنهاية العام الماضي 2021، مقابل 6 مليارات دينار عام 2019، منها جزء كبير من مستحقات الدولة.
انتقادات حادة
ينتقد المشرف على المخبر الاقتصادي للاتحاد العام التونسي للشغل عبد الرحمن اللاحقة عدم إفصاح سلطات تونس عن رسالة النوايا التي قدمتها لصندوق النقد الدولي، بما تتضمنه من نية خصخصة الشركات الحكومية.
ويقول اللاحقة لـ"العربي الجديد" إنه "من المؤسف أن يعلم التونسيون بنية الحكومة خصخصة مؤسسات حكومية عن طريق مديرة صندوق النقد الدولي".
وأضاف أن الحكومة مطالبة بنشر رسالة النوايا التي قدمتها لصندوق النقد، مقابل الحصول على اتفاق التمويل الجديد، مؤكداً أن الاتحاد العام التونسي للشغل سبق أن قدم إلى الحكومة برنامج إصلاح شامل للمؤسسات العمومية، وأبدى موافقة على إعادة هيكلتها بعد دراستها حالة بحالة.
وفي يونيو/ حزيران الماضي، قالت حكومة نجلاء بودن إنها تعمل على ضبط قائمة المؤسسات العمومية الاستراتيجية، وتدقيق وضعية هذه المؤسسات من خلال توظيف مكاتب تدقيق خارجية، وإعداد برنامج لتسوية ديونها مع الدولة، وتصفية الديون المتقاطعة حسب القطاع، وفق ما ورد في وثيقة متابعة تنفيذ البرنامج الوطني للإصلاحات.
توسع البيع
سجلت تونس عمليات عدة لبيع المساهمات الحكومية غير الاستراتيجية في البنوك المشتركة، على غرار بنك تونس الخارجي، والبنك التونسي الإماراتي، والبنك التونسي الكويتي.
لكن عمليات بيع المؤسسات قد تتسع لتطاول العديد من الكيانات، خاصة في ظل مجابهة مختلف المؤسسات العمومية صعوبات أدت إلى تدهور وضعيتها المالية، لا سيما منذ اندلاع الحرب الروسية في أوكرانيا نهاية فبراير/ شباط الماضي، وحاجة الحكومة إلى موارد نقد أجنبي.
سجلت تونس عمليات عدة لبيع المساهمات الحكومية غير الاستراتيجية في البنوك المشتركة، على غرار بنك تونس الخارجي
ويقول رئيس جامعة النقل التابعة للاتحاد العام التونسي للشغل وجيه الزيدي إن شركة الخطوط التونسية على قائمة المؤسسات المرجحة للخصخصة، مؤكداً أن التأخر في تنفيذ خطط هيكلتها منذ عام 2017 يكشف نية السلطات المضي قدماً في بيعها للقطاع الخاص أو فتح المساهمة في رأسمالها.
ويشير الزيدي في تصريح لـ"العربي الجديد" إلى أن شركة الخطوط التونسية، الناقل الرسمي الحكومي، تسيّر رحلاتها عبر أسطول لا يتجاوز 9 طائرات، كما تعاني من مديونية مرتفعة ووضع مالي صعب، نتج عن تأخير الإصلاحات التي كان يفترض أن تشهدها.
وأفاد بأن شركة الملاحة البحرية أيضاً مرجحة للخصخصة، مشيراً إلى أن جامعة النقل تطالب بفحوى الاتفاق مع صندوق النقد الدولي وإطلاع التونسيين والعاملين في القطاع على رسالة النوايا التي قدمتها السلطات للمؤسسة المالية الدولية.
ويتهيأ قطاع النقل إلى شن إضراب عام براً وبحراً وجواً، احتجاجاً على غموض مصير شركات النقل الحكومية ورفض السلطات التفاوض مع النقابات بشأن مشروع إصلاحها.
وتتهم نقابات النقل السلطة بإغراق مؤسسات القطاع عبر التأخر في إصلاحها بغاية تسهيل التفويت فيها لاحقاً دون الأخذ بعين الاعتبار آلاف مواطن الشغل المهددة من عملية تصفية الأصول.
ومنذ ديسمبر/ كانون الأول 2019 صادقت الحكومة على مشروع قانون يقضي بإحداث هيئة لحوكمة المنشآت والمؤسسات العمومية. غير أن النقابات العمالية رفضت حينها الصيغة الحكومية لإصلاح الشركات الحكومية، معتبرة أن الصيغة الواردة بمشروع القانون تُشرّع للبيع الكلي أو الجزئي للمؤسسات الحكومية.