رسم الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، يوم الجمعة، صورة وردية للاقتصاد الروسي، في خطابه الذي استمر لمدة 90 دقيقة في الجلسة العامة لمنتدى سانت بطرسبرغ الاقتصادي الدولي الذي يُقام سنوياً في روسيا، وقال إن بلاده نجحت في مقاومة العقوبات الغربية، بينما قال إن أوكرانيا أصبحت تقريباً تعتمد بشكل كامل على الدعم العسكري الغربي.
وشدد بوتين في خطابه على أن بلاده تشهد أدنى المستويات القياسية في البطالة، لذلك يجب إعادة تحديد الكفاءات، وإتاحة فرص العمل للجميع في المحافظات التي قد تواجه بعض المشاكل، بخاصة في مجال تكنولوجيا المعلومات.
وتخالف تصريحات الرئيس الروسي صندوق النقد الدولي الذي رأى في تقريره الصادر في الربيع الماضي أن نمو الاقتصاد الروسي تراجع بنسبة متواضعة خلال العام الماضي، وأنه يتجه للانكماش بنسبة طفيفة خلال العام الجاري.
جامعة ييل الأميركية: الأسواق الروسية خسرت أكثر من 1000 شركة عالمية متعددة الجنسيات كانت تستثمر فيها
وفي المقابل، يرى اقتصاديون أن الاقتصاد الروسي يواجه مجموعة من التحديات خلال العام الجاري والمقبل بسبب كُلَف الإنفاق على الحرب في أوكرانيا، وخروج الاستثمارات الغربية، وهروب أموال الأثرياء من روسيا، والتراجع الكبير في مداخيل الخزينة من الصادرات النفطية، وكذلك نقص العمالة بسبب هروب المواطنين إلى الدول المجاورة ودول آسيا الوسطى خوفاً من التجنيد الإجباري.
على صعيد هروب الشركات الأجنبية، ترى دراسة لجامعة ييل الأميركية، أن الأسواق الروسية خسرت أكثر من 1000 شركة عالمية متعددة الجنسيات كانت تستثمر فيها، كذلك غادرت مئات الشركات روسيا، بسبب العقوبات الاقتصادية القاسية التي طبقتها القوى الغربية على جميع قطاعاتها الاقتصادية والمالية والصناعية تقريباً.
وترى الدراسة أن هذا الخروج الطوعي للشركات حرم الاقتصاد الروسي إيرادات تعادل 35% من الناتج المحلي الإجمالي للبلاد. وتوظف هذه الشركات نحو 12% من القوى العاملة في روسيا.
وكان بوتين قد أشار في خطابه يوم الجمعة، إلى أن موسكو تمكنت من التعامل مع العقوبات الاقتصادية التي فرضتها الولايات المتحدة وحلفاؤها بعد فترة وجيزة من الغزو في فبراير/ شباط 2022، وذلك بشكل جزئي بسبب ارتفاع أسعار الطاقة.
وحرصت موسكو على تقديم المزيد من الفرص التجارية للبلدان عبر آسيا وأفريقيا. وقال بوتين في خطابه: "كان الربع الثاني من العام الماضي هو الأصعب بالنسبة إلى اقتصادنا، بخاصة للأعمال التجارية المحلية، ولكن يمكننا أن نقول بثقة إن الاستراتيجية التي اتبعناها نجحت".
تقديرات متباينة
ويقدر حجم الاقتصاد الروسي بنحو 2.215 تريليون دولار في نهاية العام الماضي، حسب بيانات "ستاتيستا"، لكن بيانات غربية لا تزال تضع حجم الاقتصاد الروسي في حدود 1.78 تريليون دولار.
وفي المقابل، ترى دراسة كتبها ثلاثة اقتصاديون، هم ريتشارد ديزني سيرغي جورييف وإريكا شيشزاك، في موقع "إيكونومكس أوبزارفيتري" الاقتصادي العالمي، أن العقوبات الاقتصادية ألحقت أضراراً جسيمة بالاقتصاد الروسي.
خبراء: مستقبل صمود الاقتصاد الروسي أمام العقوبات الغربية سيتوقف على ما إذا كانت القوى الغربية ستشدد حظر الطاقة على موسكو أو لا في العام الجاري
ولكن الوضع الاقتصادي بدأ بالتحسن عمّا كان عليه بعد الحرب خلال العام الجاري، حيث تمكنت روسيا من إيجاد أسواق بديلة للأسواق الأوروبية في آسيا لصادرات النفط والمشتقات البترولية والمعادن، وتمكنت من الحصول على جزء كبير من التقنيات الغربية التي يحتاجها الاقتصاد عبر الشركات الصينية، أو الالتفاف على الحظر عبر دول آسيا الوسطى.
لكن يرى الاقتصاديون الثلاثة أن مستقبل صمود الاقتصاد الروسي أمام العقوبات الغربية سيتوقف على ما إذا كانت القوى الغربية ستشدد حظر الطاقة على موسكو أو لا في العام الجاري.
وهنالك دول أوروبية ترى أن السقف السعري لمبيعات النفط الروسي مرتفعة ويجب أن يخفض. وهذا من شأنه إذا حدث أن تكون له آثار سلبية على دخل الخزينة الروسية.
وترى الدراسة أن هنالك صعوبة في قياس تأثير العقوبات الغربية على الاقتصاد الروسي بسبب عدم البيانات الكافية التي كانت توفرها المؤسسات الروسية، ولكنها تقول إنه بحلول أوائل عام 2023، كان الناتج المحلي الإجمالي الحقيقي لروسيا أقل بنسبة تراوح بين 7 إلى 10% عما كان يمكن أن يكون عليه حجم الاقتصاد لو لم تطبق العقوبات على روسيا بعد غزو أوكرانيا.
وترجّح الدراسة أن يستمر هذا الانخفاض في نمو الناتج المحلي الإجمالي حتى عام 2023 وأوائل عام 2024. وتشير إلى أن توقعات نمو الاقتصاد الروسي بعد عام 2024 ستعتمد على تطور الأنشطة العسكرية الروسية والعقوبات الغربية.
كذلك ستكون روسيا قادرة على تطوير أسواق تجارية بديلة، من شأنها أن تقلل من أي تأثير مستقبلي لإجراءات الحظر الغربي، بخاصة إذا تمكنت الاقتصادات الكبرى في آسيا من النمو بمعدلات كبيرة خلال العام الجاري، وبالتالي زيادة حجم استهلاكها للمشتقات البترولية والمعادن التي تنتجها لروسيا.
دور الطاقة الروسية في الاقتصاد
يعتمد الاقتصاد الروسي بنسبة كبيرة على صادرات الطاقة الروسية التي تأثرت مبيعاتها بالعقوبات، حيث تشكل الطاقة نسبة 15% من إجمالي الناتج المحلي ونسبة 45% من دخل الميزانية الروسية، حسب بيانات وكالة الطاقة الدولية. وبالتالي، فإن الآفاق الاقتصادية لروسيا تتوقف على ما يحدث لصادرات النفط والغاز وتأرجح أسعار النفط والغاز الطبيعي.
على صعيد العقوبات، بمقارنة لتوقعات نمو الناتج المحلي الإجمالي لروسيا قبل فرض العقوبات، ترى الدراسة أن الاقتصاد الروسي خسر نسبة تراوح بين 7 إلى 10% من الناتج المحلي الإجمالي حتى أوائل العام الجاري 2023.
وتقول الدراسة إن الاقتصاد الروسي كان سينمو بنسبة 4% في عام 2022 لو لم تحدث الحرب، ولكن نفقات الحرب والعقوبات الغربية وتداعياتها المتمثلة بهروب الثروات والشركات الغربية من البلاد أدت إلى انكماش الاقتصاد الروسي بنسبة راوحت بين 2% إلى 4.5%. وترجح أن الناتج المحلي قد ينكمش بنسبة تراوح بين 7 و9% خلال العام الجاري.
وتعتقد الدراسة أن الإنفاق الحكومي سيرتفع خلال العام الجاري بنسبة 50% على الحرب والشؤون الدفاعية، ولكن الإنفاق على الصحة سيتراجع بنسبة 9%، والإنفاق على التعليم سيتراجع 2%، وسيتراجع بنسبة 19% على الصناعة.
على صعيد دخل الطاقة، تشير إحصائيات شركة "ستاتيستا" التي تُعنى بالبيانات الاقتصادية، إلى أن روسيا تمكنت من تعويض مبيعاتها النفطية في أوروبا عبر الأسواق الآسيوية، بخاصة أسواق الصين والهند وتركيا، إلا أن ذلك حدث بكلفة عالية.
وحسب بيانات "ستاتيستا"، بلغت مبيعات الشركات الروسية من النفط والغاز حتى 8 مايو/ أيار الماضي نحو 80 مليار يورو إلى الصين ونحو 32.4 مليار يورو لتركيا.
وبلغ متوسط الإنتاج الروسي من النفط نحو 9.6 ملايين برميل يومياً، وهو ما يعني أن روسيا تمكنت عملياً من تعويض المبيعات التي خسرتها في السوق الأوروبي.
ولكن حدث هذا على صعيد النفط فقط الذي يمكن نقله عبر الناقلات النفطية وليس الغاز الطبيعي، لأن الشركات الروسية لا تزال متخلفة في صناعة الغاز المسال مقارنة بالولايات المتحدة أو قطر أو أستراليا.
ويشير محللون إلى أن سعر خام الأورال الروسي الذي يُعَدّ خام القياس للنفوط الروسية، تراجع سعره بنحو 30 دولاراً للبرميل مقارنة بسعر خام برنت بعد تطبيق عقوبات السقف السعري.
كذلك ارتفعت كلفة إنتاج برميل النفط، وراوحت بين 20 إلى 50 دولاراً حسب الموقع الجغرافي للحقل النفطي، وبالتالي ترى الدراسة أن هنالك مخاوف روسية حقيقية على الميزانية الروسية من تراجع أسعار النفط وسط كلف الحرب المرتفعة في أوكرانيا.
ووفق محللين، فإن هذه المخاوف كانت وراء إصرار موسكو على عدم زيادة الإنتاج في الاجتماع الأخير لمنظمة "أوبك +"، إذ إن دخل الخزينة الروسية يعتمد على الضرائب المتحصلة من مبيعات النفط. كذلك فإن دخل الحكومة الروسية من مبيعات النفط يواجه احتمال تشديد القوى الغربية للعقوبات على الطاقة الروسية، ربما بعد الصيف الجاري.
ويرى محللون أن الميزانية الروسية تعاني إلى جانب الارتفاع المتواصل في كلف الحرب الأوكرانية من إخفاء الشركات الروسية لدخلها الحقيقي من صادرات النفط، حيث إنها تخفيها من الحكومة الروسية في حسابات "أوفشور"، بهدف تقليل فاتورة الضرائب.
وواجهت مبيعات النفط الروسية ارتفاعاً في كلف النقل البحري بعد العقوبات، وبالتالي خسرت سبل التصدير الرخيص عبر الأنابيب لأوروبا.
واضطرت موسكو إلى تأجير أسطول الناقلات القديمة بكلف عالية لنقل خاماتها إلى آسيا. وتعرضت هذه الناقلات لحملات عقابية من قبل الموانئ الآسيوية، بخاصة في سنغافورة التي رفعت كلف التأمين وزادت من عمليات التفتيش للتأكد من مطابقة المعايير الدولية.