بنوك تركيا وأزمة الليرة والأسئلة الحائرة

20 ديسمبر 2021
البنوك التركية حافظت على حرية العميل في التصرف بايداعاته دزن قيود (getty)
+ الخط -

قبل أيام، زرت مقارّ عدة بنوك تركية تعمل في مدينة إسطنبول، لأرصد انعكاسات أزمة تهاوي الليرة على النشاط المصرفي فيها، والخدمات المقدمة للعملاء، سواء كانوا مودِعين ومدخِرين أو مستثمرين ومقترضين.

حاولت بهذه الجولة الميدانية أيضا أن أجد إجابة لعشرات من الأسئلة الحائرة التي تجول في بال المتابعين للأزمة المالية التركية الحالية والتي تصاحبها اضطرابات عنيفة في سعر الليرة مقابل الدولار، وزيادة ظاهرة "الدولرة" واكتناز العملات الأجنبية والذهب من قبل الأتراك.

من أبرز تلك الأسئلة: هل فرضت البنوك التركية البالغ عددها أكثر من 50 بنكا قيودا على عمليات السحب بالنقد الأجنبي، خاصة بعملتي الدولار واليورو، في ظل الأزمة الحالية التي يمر بها القطاع المالي؟

ما هي انعكاسات اضطرابات سوق الصرف العنيفة على القطاع المصرفي؟ وهل تَدَافع العملاء نحو البنوك لسحب أرصدتهم الدولارية خوفا من فرض قيود محتملة من قبل السلطات الحاكمة، يحول دون حصول هؤلاء على مدخراتهم بالنقد الأجنبي، كما حدث في دول أخرى مرت بنفس الظروف التي تمر بها تركيا حاليا؟

هل أصدر البنك المركزي التركي تعليمات استثنائية تحدّ من سحب الدولار من البنوك من قبل المتعاملين، أو أصدر إجراءات تصل إلى حد منع عملية السحب أصلا، كما حدث في دول أخرى منها اليونان ودول في أميركا اللاتينية قبل سنوات وفي لبنان خلال العام الماضي؟

وهل أغلق البنك المركزي فروع بعض البنوك التي تمتنع عن بيع الدولار لعملائها، أو أحال موظفين فيها إلى القضاء بتهمة المضاربة في العملات الأجنبية والاتجار في العملة؟

هل تلاحق الشرطة التركية المضاربين وتجار العملة في الشوارع، وتعتقل كبار هؤلاء بتهمة الإضرار بالأمن القومي للبلاد والإساءة لسمعتها، وتهديد الاستقرار والأمن الاقتصادي، وافتعال أزمات مالية تؤثر سلبا على المواطن والاقتصاد، وتسيء لسمعة البلاد في الخارج وتزعزع الاستثمارات الأجنبية؟ وهل تم اعتقال مجموعة أفراد بتهمة التورط في تهريب أموال إلى الخارج للضغط على الليرة التي تعاني من انهيار متواصل؟

ومع تفاقم أزمة الليرة التركية، فإن السؤال الذي كان يشغل بالي وبال آخرين وأنا أتنقل من فرع بنك لآخر: هل شهد القطاع المصرفي التركي إفلاس وحدة مصرفية أو حتى تعثّر أحد المصارف؟

وهل سمعنا منذ بداية الأزمة عن عدم قدرة أحد البنوك العاملة في السوق التركية على تلبية احتياجات عملائها الدولارية، أو على الأقل، هل توجه مودِع بشكوى ضد بنك ما للجهات الرقابية في الدولة وفي مقدمتها البنك المركزي لامتناعه عن تزويده باحتياجاته الدولارية ومنها مدخراته؟

عشرات الأسئلة الحائرة الأخرى التي باتت مطروحة على السطح من قبل المتعاملين، خاصة العرب، مع البنوك التركية، مع توقعات بحدوث مزيد من التهاوي لليرة التركية، مع إصرار البنك المركزي ومؤسسة الرئاسة على خفض سعر الفائدة رغم زيادة معدل تضخم الأسعار.

فضّلت ألا أحصل على إجابات عن هذه الأسئلة وغيرها من المصرفيين الأتراك وموظفي البنوك، فربما شهاداتهم مجروحة في ظل تفاقم أزمة الليرة ودفاع هؤلاء عن المؤسسات الحساسة التي يعملون فيها، لكن حصلت على الإجابات من خلال وسيلتين: الأولى وهي الأصدق من خلال المشاهدات الحية من داخل صالات البنوك التي زرتها، حيث لاحظت هدوءا شديدا من قبل العملاء، فلا زحام على الشبابيك، ولا سحوبات استثنائية، والصرافون في البنوك يلبّون احتياجات العملاء، خاصة المدخرين.

أما المقترضون من رجال الأعمال والمستثمرين وأصحاب المصانع، فإن زيارتهم مقار البنوك تراجعت خلال الفترة الأخيرة، انتظارا لما ستسفر عنه الأزمة الحالية، وإلى حين وضع حد للصراع الحاد بين المضاربين على العملة والبنك المركزي.

يمتد هذا الحذر أيضا للراغبين في الحصول على قروض شخصية لتمويل شراء عقار أو سيارة أو سداد مصروفات تعليم أو بضمان الراتب، فهؤلاء يؤجلون قراراتهم للاستفادة من الخفض المتوقع في أسعار الفائدة.

أما مصدر الإجابات الثاني عن أسئلتي فجاء من العملاء أنفسهم الجالسين وسط صالات البنوك، والذين أكدوا أن أزمة الليرة دفعتهم بالفعل إلى التواصل مع المصارف التي يتعاملون معها.

بل إن بعضهم اختبر البنوك عن طريق تقديم طلب بسحب أرصدته الدولارية، وكانت إجابة موظفي البنوك للعميل شبه واحدة: "تفضل في أي وقت، فأموالك جاهزة، حدد لنا الوجهة التي تريد تحويلها إليها وسنحوّلها فورا".

تحدثت مع عملاء عرب كانوا يجلسون بكثرة داخل صالات عدة بنوك، أبرزها البنك الكويتي التركي Kuveyt Turk، أو ما يطلق عليه اسم كويت ترك، وبنك زراعات الذي يستقطب شريحة كبيرة من العرب ويعد من أقدم البنوك وهو ثاني أكبر المصارف في السوق، وكذا بنك قطر الوطني، والبركة.

التقيت عملاء بنوك من سورية ومصر واليمن والعراق وتونس وليبيا، وكانت الإجابات واحدة، وهي أن الحكومة لم تفرض أي قيود على السحب النقدي من البنوك، خاصة بالدولار، ولم يفرض البنك المركزي أي قيود على عمليات التعامل بالنقد الأجنبي داخل القطاع المصرفي، ولم تسارع الدولة إلى إغلاق شركات الصرافة التي تعرض شاشاتها سعراً مرتفعا للدولار، ولا يوجد سوق سوداء للعملة.

معك دولار يمكن أن تغيره إلى الليرة في العلن وحسب السعر المدرج على شاشات البنوك وشركات الصرافة، وليس من خلال مضاربين وتجار عملة أو هؤلاء الذين يختفون وراء الأبواب المغلقة خوفا من ملاحقات الشرطة وأجهزة الأمن، كما يحدث في دولنا العربية.

أخيرا ننتقل لموظفي البنوك الذين قالوا إن السيولة الدولارية متوافرة في البلاد، ولا توجد ندرة في النقد الأجنبي سواء بالدولار أو اليورو، وهو ما يؤكد أن الأزمة لا تتعلق بإيرادات تركيا الخارجية، قدر ما تتعلق بالمضاربات وحالة السوق التي سادت في الفترة الأخيرة.

هناك ما يدلل على كلام هؤلاء في البنوك التركية، فتركيا لديها إيرادات من الصادرات تتجاوز 220 مليار دولار بنهاية العام الجاري، وهذا الرقم كاف لسداد الالتزامات المستحقة على البلاد، سواء كانت أقساط وأعباء الدين الخارجي، أو فاتورة واردات الوقود والأغذية والمواد الخام والسلع الوسيطة.

وهناك إيرادات دولارية أخرى من السياحة تتجاوز 11.8 مليار دولار خلال الربع الثالث من العام الجاري فقط رغم أزمة كورونا، بل إن إيرادات قطاع العقارات ستتجاوز 7 مليارات دولار بنهاية هذا العام، إضافة إلى إيرادات أخرى بمليارات الدولارات ناتجة عن تحويلات الأتراك العاملين في الخارج والذين يقدر عددهم بنحو 15 مليون مهاجر، خاصة من دول الاتحاد الأوربي ومنطقة الخليج، فتركيا لديها جالية في ألمانيا وحدها يتجاوز عددها 3.5 ملايين مواطن، عدا المتواجدين في دول الخليج والذين يحولون لذويهم في الداخل مليارات الدولارات سنويا.

أضف إلى ذلك، إيرادات شركات البناء والتشييد والمقاولات التركية العملاقة المنتشرة في العديد من دول العالم، والتي حققت عائدات وصلت إلى 18.3 مليار دولار في العام الماضي، لتحجز تركيا بهذا الرقم ما يعادل 4.4% من إجمالي الحصة السوقية للبناء عالمياً.

المساهمون