تستمرّ إضرابات الممرضين والمسعفين في بريطانيا نتيجة الانخفاض الكبير في الاستثمار بهذا القطاع، فيما يقول خبراء الصحة إن العديد من القرارات السياسية التي اتخذتها حكومة المحافظين الحالية وأيضًا من قبل حزب العمال قبل عام 2010، أوصلت الخدمات الصحية إلى حافة الانهيار.
في المقابل، يقول ستيف باركلي، وزير الصحة، إنّ حالات الأنفلونزا العالية وكوفيد والمخاوف من تفشي بكتيريا "ستريب أ" هي السبب في الأزمة الحالية.
وبرغم أعباء العمل المتزايدة بسبب نقص أعداد الممرضين واستمرار العمل الإضافي غير المدفوع الأجر، وما رافق ذلك من فرض تخفيضات في الأجور بالقيمة الحقيقية خلال الأزمة المعيشية، لا تزال الحكومة تدعو إلى طلب زيادة معقولة.
وتلوح في الأفق خطوات يراها البعض تمهيدية لخصخصة خدمات الصحة الوطنية في بريطانيا، وأبرزها اقتراح المستشار السابق لورد كينيث كلارك، الذي يقول إن الأزمة الحالية التي تعاني منها خدمات الصحة الوطنية تعني أنّه ينبغي على الأثرياء تقديم مساهمة في الخدمة الصحية.
ويوضح أنّ الوقت قد حان لمناقشة دفع رسوم متواضعة من قبل المرضى الأفضل حالاً لمواعيد الطبيب العام وبعض الإجراءات للمساعدة في جمع الأموال للخدمات الصحية.
ومع العلم أنّ هذا الاقتراح يتعارض مع المبدأ الأساسي لخدمات الصحة الوطنية التي تقضي بمجانيتها للجميع، يلفت كلارك، الذي كان وزيرا للصحة في عهد حكومة تاتشر، إلى أن الناس لا يمكنهم المطالبة بالمعايير الأوروبية لهذه الخدمة، ولكنّهم سيستمرون في دفع مبلغ أقل من مستويات الضرائب.
وتواصل "العربي الجديد" مع الخبير الاقتصادي في السياسة العامة طوني هوكلي، الذي عمل سابقا كمستشار خاص لعدد من الوزراء في المملكة المتحدة، للوقوف على رأيه في أزمة خدمات الصحة الوطنية.
وقد اقترح هوكلي إمكان التمهيد لخصخصة خدمات الصحة، قائلا: "إنّنا نحتاج فقط إلى التنبيه إلى القيمة الأساسية المتمثلة في وجود عدد كافٍ من المهنيين في المناصب والاحتفاظ بهم. فالوضع الحالي غير آمن، سواء كان هناك إضراب أم لا".
وهو يعتقد أن فرض رسوم على المرضى لن يحلّ مشكلة عدم كفاية التمويل الأساسي.
وإذا كان الهدف أن تكون هذه الرسوم بمثابة رادع للاستخدام المفرط لهذه الخدمات، يقول: "نحن لدينا في الواقع وسائل ردع كبيرة، ومنها على سبيل المثال فترات انتظار طويلة ووصول محدود للخدمات"، مشيرا إلى "مشكلة خطيرة تتمثل في ترك المرضى لفترات متأخرة قبل تأمين حصولهم على الرعاية".
أمّا إذا كان الهدف هو جمع الأموال، فالأمر برأيه "لا يستحق العناء، لأننا نعفي الفقراء وكبار السن والمرضى المزمنين، ولن يبقى سوى مبلغ صغير لجمعه".
وخير مثال على ذلك هو رسوم الوصفات الطبية التي، نظرًا للإعفاءات، يتم إصدار معظمها مجانًا، فيما يبقى إجمالي المبلغ الذي يتم جمعه أقل من 600 مليون جنيه إسترليني من ميزانية خدمات الصحة الوطنية.
وفي السياق ذاته، واجهت فكرة كلارك، التي نشرتها الصحف البريطانية في 10 يناير/كانون الثاني، انتقادات، إذ رفضتها الوزيرة السابقة في الحكومة أندريا ليدسوم، وقالت عضو البرلمان من حزب المحافظين إنّ خدمات الصحة العامة ينبغي أن تبقى مجانية للجميع.
كما أكّد زعيم حزب العمال السير كير ستارمر أن الكلفة المجانية عند نقطة التسليم ستبقى المبدأ الأساسي في ظل حكومة حزب العمال، ودافع عن دعوته لاستخدام أكبر للقطاع الخاص للمساعدة في خفض قوائم الانتظار على خدمات الصحة الوطنية.
وفي حديثه إلى برنامج "صوفي ريدج"، في 8 يناير، أوضح "أنّهم لا يتحدّثون عن خصخصة خدمات الصحة الوطنية"، لكنّه أشار إلى أنّ "هذه الخدمة لطالما تضمنّت عناصر من القطاع الخاص مثل الأطباء العموميين".
من جهتها، تستمرّ منظمة حملات "حافظوا على خدماتنا الصحية الوطنية عامة" Keep Our NHS Public في التزامها بعكس ما تصفه بالخصخصة المستمرة لهذه الخدمات، وقد أطلقت أخيراً عريضة بعنوان "إعادة بناء خدمات الصحة الوطنية ولا مزيد من المعاناة التي لا داعي لها".
في السياق، يعلّق الأكاديمي في مجال السياسة الصحية الدكتور جون ليستر، في حديث لـ"العربي الجديد"، على مسألة خصخصة خدمات الصحة الوطنية، فيقول إنّه لا يوجد أي أساس لدعم سياسي كي تتمكن أي حكومة من القيام بذلك، كونها ستواجه تحديات كبيرة في الانتخابات المقبلة.
ويتابع: "في الواقع القطاع الخاص لا يزال صغيراً للغاية حتى بعد مرور عقود من الزمن، وهو ليس في وضع يسمح له بالتقدّم بحلول بديلة من خدمات الصحة الوطنية التي لم يتعرّض معظمها للخصخصة، لأنّ أي جهة لا يتوافر لديها المال الكافي والقدرات لإدارة خدمات الطوارئ والخدمات المعقّدة الأخرى".
ويضيف: "لكن ما حدث هو أنّ القطاع الخاص اختار نوعاً محدداً من العمليات ومن الرعاية وحصل على عقود عمل من خدمات الصحة الوطنية تفيده ماديا من دون تحمّل أي مخاطر على الإطلاق. ولا أرى أي إشارات على أنّ القطاع الخاص يريد تغيير هذا الوضع".
ويتابع ليستر قائلا إنّه يدرك أن هناك أشخاصا قلقون من تخصيص خدمات الصحة الوطنية واستلام شركات أميركية لها، لكن في الوقت الراهن لا توجد أي إشارات تدل على أنّ أي شركة أميركية تريد أن تحل بديلاً عن خدمات الصحة الوطنية في الأسواق البريطانية، فيما المسألة تحتاج إلى تمويل ضخم، ويلفت إلى أنّ هناك عددا قليلا من الشركات الأميركية حالياً لكنّها لا تزال تعمل بشكل هامشي.
وفي ردّه على سؤال "العربي الجديد" حول أسباب أزمة خدمات الصحة الوطنية، يقول ليستر إنّ توجيه الملامة لحزب العمال مهزلة، لأنه لم يكن في الحكومة منذ 13 عاماً تقريبا.
وعندما استلم حزب المحافظين الحكومة في عام 2010، كان أداء خدمات الصحة الوطنية جيداً للغاية عقب 10 سنوات من الاستثمار الكبير فيها خلال حكومتي بلير وبراون.
بيد أنّ حكومة كاميرون، يتابع ليستر، أوقفت التمويل، ومذّاك ولغاية اليوم كان الاستثمار فيها أدنى من المعدّلات المطلوبة مع تزايد أعداد السكان. ولذلك تعجز هذه الخدمات عن تلبية الضغوط المتزايدة عليها، وبالطبع جائحة كورونا فاقمت الأمور، لكن جميع هذه المشاكل كانت موجودة قبل الجائحة.
كما يرى أن "من المثير للقلق للغاية فترات الانتظار التي نشهدها اليوم في خدمات الطوارئ، وهي أسوأ مما كانت عليه عام 2019 بسبب الاستمرار في افتقارها للقدرات والأماكن وليس نتيجة زيادة الطلب على الخدمة".
ويشير إلى أن "الخطوات الأولى لتغيير وجه خدمات الصحة الوطنية على الطريقة التي ينبغي عليها أن تكون، كخدمة عامة للجميع. والمشكلة الكبيرة أنّه في حال بدأنا بمنع الأغنياء من الحصول على هذه الخدمة مجانا سنلحق الضرر بالنظام بأكمله".
واليوم هناك 110 آلاف وظيفة شاغرة في القطاع، ولم يتم وضع خطة للقوى العاملة منذ عام 2003، ورفض وزراء الحكومة تعديلاً على مشروع قانون الرعاية الصحية يتطلب تقييمًا مستقلاً ومنتظمًا لاحتياجات التوظيف.
ويبدأ الراتب الأساسي للممرضات والقابلات والمسعفين من 27 ألفاً و55 جنيهاً إسترلينياً سنوياً، وهؤلاء يصنفون ضمن الفئة الخامسة، ويمكن أن يزيد هذا المرتب عن 33 ألف جنيه فقط من خلال الترقية إلى الفئة السادسة.
وتحسب منظمة الصحة الشروط الحقيقية للأجور الأساسية للممرضات التي انخفضت بنسبة 10% تقريبًا منذ عام 2012، وتقرّ أيضاً "هيئة مراجعة الأجور" PRB بأن "الراتب المبدئي للممرضات لا يزال أقل من قيمته عندما تم تقديم أجندة التغيير في عام 2004".
وأوصى تقرير هذه الهيئة لعام 2022 الصادر في يوليو/تموز، بمكافأة قيمتها متوسط زيادة 4.8% في فاتورة الدفع، أي أقل بكثير من أرقام التضخم في مؤشر أسعار المستهلكين ومن أرقام مؤشر أسعار المستهلك المعتمدة لدى الكلية الملكية للتمريض.
لكن هذا التقرير تجاهل التضخم الإضافي في أسعار الطاقة وارتفاع أسعار سلع أخرى بسبب الحرب في أوكرانيا.
ومع ذلك، اعترفت هيئة مراجعة الأجور بأن "التضخم وفقًا لمؤشر أسعار المستهلك بلغ 9% في إبريل/نيسان 2022، وهو أعلى معدل مسجّل منذ بدء سلسلة التضخم في عام 1989".
وتمثّل الأجور العبء الأكثر كلفة على خدمات الصحة الوطنية. لذلك لم يرتفع إجمالي أجور خدمات الصحة الوطنية سوى بنسبة 2% سنويًا بالقيمة الحقيقية لمدّة 35 عاماً حتى عام 2009/ 2010.
وتم تجميد الأجور في الخدمات الصحية الوطنية من 2011/ 2012 إلى 2012/ 2013، وتم تحديد حد أقصى له بنسبة 1% عام 2013/ 2014 ولغاية عام 2014/ 2015.
وفي ظلّ هذا التقشّف في أجور موظفي قطاع الصحة، تستمرّ إضراباتهم، التي حذّر الرئيس التنفيذي لاتحاد خدمات الصحة الوطنية ماثيو تايلور من أنّها ستكون أسوأ في يناير/كانون الثاني مما كانت عليه في ديسمبر/كانون الأول نتيجة إضراب عدد أكبر من الموظفين ووجود "ضغط أكبر بكثير" على الخدمة الصحية.
يأتي ذلك بعدما فشلت المحادثات بين النقابات ووزير الصحة ستيف باركلي، يوم الإثنين، في التوصل إلى اتفاق، على الرغم من أنه وافق على النظر في اقتراح تقديم صفقة أجور خدمات الصحة الوطنية للعام المقبل إلى يناير/كانون الثاني الحالي.