بينما يعاني أغلب المصريين ويلات أزمة مالية خانقة، وتراجعا مخيفا في القوة الشرائية لدخولهم ومدخراتهم، ينظر البعض إلى انهيار العملة المصرية باعتباره نوعا من القضاء والقدر، كأي كارثة طبيعية مثل الزلزال أو الفيضان أو حتى الوباء، مما ينبغي التعامل معه فقط بالصبر والدعاء، وكأن أحداً لم يخطئ، أو أن كل القرارات التي اتخذت قبل الأزمة وأدت إليها، أو بعد الأزمة وفاقمتها، كانت مدروسة بعناية، وعن علم، وأننا قمنا بكل ما هو مطلوب، لكن "غباء الآخرين" هو ما حال دون نجاح خططنا، وفقاً لمقولة الممثل هاني رمزي في فيلم يحمل اسم "غبي منه فيه".
لكن المتابع لما جرت عليه الأمور الاقتصادية والمالية في مصر اعتباراً من عام 2017، وحتى انفجار الأزمة في وجوهنا جميعاً، خلال الربع الأول من عام 2022، يدرك بالتأكيد أن هذا لم يكن الحال، حيث كان واضحاً سوء الإدارة، وتجاهل الكثير من البديهيات، مع عجز كبير في ترتيب الأولويات بصورة سليمة.
وتفرض الأمانة الرجوع بعض الشيء إلى الفترة التي سبقت عام 2017، لتوضيح أن البنك المركزي المصري لم يضطر للدخول في المعركة إلا بسبب عجز الاقتصاد الحقيقي عن تحقيق آمال المواطنين، من ارتفاع الدخول، وتراجع التضخم، وزيادة نسب التوظيف.
ولم يفعل ذلك الاقتصاد الحقيقي، لأن أغلب القائمين على الأمور فضلوا فتح الباب على مصراعيه للاستيراد، ما تسبب في انهيار العديد من الصناعات المصرية، وارتفاع العجز المزمن في الميزان التجاري المصري، بينما استمر مؤشر نشاط القطاع الخاص غير النفطي في التراجع لما يقرب من ثلاثين شهراً متتالياً، وفقاً لبيانات البنك المركزي. ولما كانت إيرادات قناة السويس، والسياحة، وتحويلات المصريين في الخارج أقل من أن تسد العجز التجاري، فقد بقي الحساب الجاري للبلاد عاجزاً، وزاد الضغط على العملة المحلية، وعلى احتياطيات النقد الأجنبي بالبلاد.
وخلال الفترة بين 2017 و2020، كان البنك المركزي دائماً أمام خيارين، أحلاهما مر، ولكن بالتأكيد كان أحدهما صحيحا والآخر غير صحيح. اختار البنك المركزي التمسك بتقوية الجنيه في مواجهة الدولار، اعتماداً على الأموال الساخنة التي كانت تأتي للحصول على أعلى فائدة حقيقية في العالم، والتي وفرتها سوق أوراق الدين الحكومي المصرية.
هذا الأمر مهد للمأساة التي شهدناها مطلع عام 2022، حين خرجت الأموال الساخنة من السوق المصرية، ومن أغلب الأسواق الناشئة، مع ارتفاع أسعار الفائدة الأميركية، فكانت واحدة من أقرب لحظات الحكومة المصرية من إعلان إفلاسها، لولا المساعدات التي جاءت من بعض الدول الخليجية، وما اضطرت الحكومة المصرية للموافقة على بيعه، من بعض أفضل الشركات المصرية. ولم يفارقنا شبح الإفلاس من وقتها وحتى هذه اللحظة، رغم دعاوى القول والغلواء، سواء عن جهل أو مكر.
في 2020 جاء كوفيد، وطالما تم استخدامه في العديد من المناسبات (عن غير حق) باعتباره أحد أهم أسباب الأزمة الحالية، فبالتأكيد كان المسؤولون وقتها يدركون التغيرات التي حدثت في البيئة الاقتصادية والاستثمارية، وكان من بين أهم علاماتها خروج الأموال الساخنة من مصر.
استمرت الحكومة المصرية طوال عامين في اتخاذ كل القرارات الخاطئة، واضعة أولويات لا تهم المواطن، مثل بناء أكبر جامع وأكبر كنيسة وأعلى برج في أفريقيا، في صحراء لم يكن يذهب إليها مائة مواطن بخاطره.
أصر البنك المركزي على تقوية الدولار ودعمه بما في خزائنه من احتياطيات النقد الأجنبي، رغم ما تطلبه هذا النوع من الإنفاق البذخي، وكذلك بناء القصور والمشروعات الخدمية التافهة، فبدأ الاحتياطي النقدي في التراجع، وحصل المستوردون والمسافرون ومهربو الأموال للخارج على دعم من أموالنا، لم يكونوا يستحقونه، عند شرائهم العملة الصعبة، وذلك لأن محافظ البنك المركزي كان يقول وقتها لكل من يسأله أن لدينا فائضا في ميزان المدفوعات.
في الربع الأخير من عام 2021، والربع الأول من عام 2022، تحدث مسؤولو البنك المركزي المصري عن مدى قدرة الجنيه على الاحتفاظ بقيمته أمام الدولار (15.75 جنيهاً لكل دولار تقريباً)، مع الإجراءات التقييدية التي بدأ يقوم بها بنك الاحتياط الفيدرالي، أي البنك المركزي الأميركي، والهادفة لرفع معدلات الفائدة، حيث ارتفع الدولار أمام سلة من عملات الاقتصادات الكبرى بصورة ملحوظة، بينما لم يقو على فعل الشيء نفسه مع الجنيه المصري.
جاءت تعليقات البنك المركزي المصري على الأرجح بسبب قلق الأجانب على استثماراتهم في أدوات الدين المصرية، التي منحتهم على مدار السنوات الأخيرة عائداً يتجاوز عشرة بالمائة، فيما يطلق عليه في أسواق المال اسم "الأموال الساخنة". وقبلها بعدة أشهر، أصدرت وكالة بلومبيرغ عدة تقارير، أشارت فيها إلى أن مصر تدفع أعلى معدل فائدة حقيقي في العالم.
برر البنك وقتها تثبيت قيمة الجنيه خلال السنوات السابقة بأن تخفيض الجنيه لن يحل أزمة عجز الحساب الجاري، وإنما سيزيد العبء على الاقتصاد المصري، متوقعاً حل الأزمة بمجرد تحسن عائدات السياحة، وتدفق الاستثمارات الأجنبية، وارتفاع إيرادات قناة السويس، ونمو تحويلات المصريين العاملين بالخارج!
أصر البنك خلال تلك الفترة أيضاً على الاختيار الخاطئ والمكلف، واستمر في إرسال إشارات الطمأنة، ما ساعد متخذي القرار في الاقتصاد الحقيقي على الاستمرار في إنفاقهم العبثي من العملة الأجنبية، وفاقم من الأزمة في الأشهر التالية. وكانت كل محاولات البنك المركزي لحلحلة الأزمة عبارة عن خطوات تؤجل الانهيار، ولا تمنعه، بما فيها تأجيل سداد الودائع الخليجية، أو الحصول على مزيد من القروض، بالإضافة بالطبع إلى بيع الأصول المصرية، التي تحرم الدولة من إيرادات، بعضها بالعملة الأجنبية، في الفترات القادمة.
الآن، ونحن نقف قريباً من نقطة مشابهة للنقاط السابقة، يجد البنك المركزي نفسه أمام خيارين لا ثالث لهما. فإما أن يصر على أن "الفرج آتٍ"، وأن "الله سيكرمنا"، ويفتح خزائن العملة الأجنبية لديه ولدى البنوك أمام طلبات الشراء التي يقول إنه قيدها، أو أن يغلقها تماماً أمام كل شيء، باستثناء استيراد القمح وبعض أنواع الدواء التي لا يوجد لها بديل محلي.
الكرة ما زالت في ملعب البنك المركزي، رغم الضغوط الموضوعة عليه. ولكن خبرة السنين السابقة أكدت لنا أن سوء ترتيب الأولويات قد يأتي بالمصائب، ولنا في لبنان عبرة. فهل يدرك المسؤولون كم ليرة لبنانية يشتريها الدولار الآن على منصة بلومبيرغ؟