تعيش سوق العملات العالمية تقلبات وتذبذبات حادة تصل إلى حد الانقلابات سواء بالنسبة للعملات الرئيسية مثل اليورو والين الياباني والجنيه الإسترليني، أو عملات الأسواق الناشئة مثل الليرة التركية والجنيه المصري والروبية الهندية التي تراجعت قيمتها بشدة مع موجة نزوح الأموال الساخنة منها وهروب الاستثمارات الأجنبية وتراجع إيرادات النقد الأجنبي، وزيادة كلفة الواردات بسبب قفزات أسعار الأغذية والوقود.
وأصبحت أسواق الصرف في حالة تخبط بسبب حالة الغموض وعدم اليقين التي تكتنف الاقتصاد العالمي مع استمرار الحرب الروسية على أوكرانيا، وزيادة التضخم لمعدلات قياسية والذي يصاحبه موجة رفع أسعار الفائدة، وتزايد حالات فيروس كورونا في الصين والعودة الشرسة للوباء والتي تدفع إلى توسيع رقعة الإغلاقات كما حدث مع حي تشاويانغ، أكثر أحياء بكين كثافة سكانية، وقبلها الإغلاق التام لإقليم شنغهاي، وهو القرار الذي هز اقتصاد العالم قبل شهور بسبب أهمية الإقليم لكونه محورًا رئيسيًا للصناعة المالية، ومركزًا للإلكترونيات وتصنيع السيارات. كما أن شنغهاي تملك أكثر موانئ الشحن ازدحامًا في العالم.
الدولار القوي
السوق الأميركية تبدو ظاهريا هي المستفيد الأكبر من التقلبات في أسواق الصرف حيث تعيش عصر الدولار القوي والمنتعش، وهو أمر قد لا يروق للإدارة الأميركية خاصة وأنه يؤثر سلبا على الصادرات والسياحة والاستثمارات الأجنبية، وقد لا يخدم خطط إدارة جو بايدن الرامية إلى تنشيط الاقتصاد والخروج من حالة الانكماش، وتوفير الأموال الرخيصة للمستثمرين، وزيادة الإنفاق الاستهلاكي.
وقد تزيد قوة العملة الأميركية مع رفع سعر الفائدة على الدولار عدة مرات في الفترة المقبلة في إطار محاولة الاحتياطي الفيدرالي (البنك المركزي الأميركي) مكافحة التضخم الذي يعد الأعلى منذ 41 سنة، وقفزات أسعار البنزين..
اليورو الضعيف
والعملة الأوروبية الموحدة التي راهنت مؤسسات وبنوك استثمار عالمية على أن تكون منافسا قويا للدولار عند إطلاقها في عام 1999، أصابها الوهن والضعف في ظل ضخامة الأزمات التي تمر بها دول القارة وآخرها تلك الناتجة من كلفة حرب أوكرانيا الباهظة، وموجة التضخم العنيفة وقفزات أسعار الطاقة والوقود، وقبلها حالات الإفلاس التي مرت بها دول أعضاء في منطقة اليورو مثل اليونان وقبرص وغيرها، ومغادرة بريطانيا الاتحاد الأوروبي.
بل إن الأخطر في الفترة الأخيرة بالنسبة لليورو هو حديث بعض قادة الأعمال عن احتمال تزايد حالات الإفلاس داخل ألمانيا، قاطرة الصناعة الأوروبية، حيث تشير الأرقام والإحصاءات الصادرة من كبريات المؤسسات الدولية إلى أن ألمانيا هي أكثر الدول الأوروبية تضررا من الحرب بين روسيا أوكرانيا. ومن بين هؤلاء مانفريد كنو رئيس مجلس إدارة كومرتس بنك والذي قال إن إمدادات الطاقة في ألمانيا معرضة للخطر، الأمر الذي يحمل في طياته خطر المزيد من حالات الإفلاس في البلاد.
ومع هذا الضعف تتدحرج قيمة العملة الأوروبية يوما بعد يوم، فسعر اليورو يقترب بسرعة من الدولار الواحد مع تفاقم الأزمات التي تمر بها القارة مقابل 1.2 دولار قبل بداية الحرب الروسية على أوكرانيا.
وهذا أمر شكل مفاجأة للمضاربين في سوق العملات، وقد يستمر هذا الضعف والتراجع حتى موعد رفع سعر الفائدة على العملة الأوروبية في شهر يوليو أو سبتمبر المقبل.
الإسترليني الأسوأ
والجنيه الإسترليني الذي كان يصنف على أنه من أقوى العملات عالميا، بات حاليا ثالث أسوأ عملة من حيث الأداء بين العملات الرئيسية في سوق الصرف الأجنبي العالمي، بل إنه خسر أكثر من 8% من قيمته منذ بداية العام الجاري. وهوى الاسترليني اليوم الاثنين إلى أدنى مستوى في عامين مقابل الدولار.
والأسوأ أن هناك توقعات بتراجع سعر صرف الجنيه الإسترليني إلى 1.19 دولار وفق توقعات مصرف "غولدمان ساكس" الاستثماري الأميركي، خاصة مع زيادة التوتر بين لندن والاتحاد الأوروبي حول التجارة بعد بريكست مع أيرلندا الشمالية.
وربما يواصل الإسترليني تراجعه مقابل العملات الرئيسية الأخرى مع الضغوط التضخمية وانكماش النمو الاقتصادي وقفزات أسعار الوقود والأغذية، وربما يتكرر سيناريو العام 1985 حيث تراجع سعر الإسترليني إلى دولار واحد، وهو ما يقلق المستثمرين في بريطانيا ويزعج المواطن خاصة الراغب في السياحة خارج بلده.
والأرقام الصادرة أمس تزيد الضغوط على الإسترليني، فقد انكمش الاقتصاد البريطاني في إبريل الماضي بوتيرة مفاجئة هي الأعلى منذ أكثر من عام، وهو ما يزيد من خطر انكماش الاقتصاد في الربع الثاني ويعزز مخاوف التباطؤ مستقبلاً. وعقب الكشف عن هذه الأرقام هبط الاسترليني 1.4 بالمئة ليصل إلى 1.2144 دولار، وهو أدنى مستوى له منذ شهر مايو/ أيار 2020 .
وهناك دول أخرى تحرص على اضعاف عملتها الوطنية بهدف زيادة إيرادات النقد الأجنبي عبر تنشيط بعض الأنشطة الاقتصادية مثل الصادرات الخارجية والاستثمارات الأجنبية والسياحة، ومن بين هذه الدول اليابان والصين وغيرها، وهو أمر يمثل تحديا للحكومات والبنوك المركزية خاصة في حال وجود انكماش داخل اقتصاد الدولة.
الين المأزم
في اليابان مثلا تشهد العملة المحلية انهيارا كبيرا، فقد تراجعت قيمة الين إلى أدنى مستوياتها مقابل الدولار في 24 عاماً، وسط إصرار الحكومة على اضعاف قيمة العملة بهدف تنشيط السياحة وزيادة الصادرات التي عادة تقود النمو الاقتصادي بالبلاد، والحد من هروب الاستثمارات الأجنبية، وبالتالي تنشيط الاقتصاد الياباني الذي يعاني من ركود طويل.
ودفع تراجع الين إلى أدنى مستوياته في نحو ربع قرن أمس محافظ بنك اليابان المركزي، هاروهيكو كورودا إلى الخروج بتصريح لافت يحذر فيه من انخفاض قيمة العملة، ويعتبر أن الانخفاض السريع الأخير في سعر الين أمر غير مرغوب فيه وسلبي للاقتصاد، ويشدد على أن تأثير الانخفاض السريع للين من شأنه إحداث ضرر لاقتصاد البلاد ويزيد من عدم اليقين وصعوبة وضع خطط العمل للشركات، خاصة بعدما تراجع الين مقابل الدولار إلى أدنى مستوياته منذ عام 1998، وتعهد المحافظ بالعمل مع الحكومة اليابانية عن كثب لمراقبة تأثير هذا الانخفاض على الاقتصاد.
ما يزيد من أزمة الين هو أن اليابان لا تزال في دوامة الانكماش للسنة السابعة على التوالي والمتمثلة في انخفاض معدلات النمو والتضخم وارتفاع مستويات المديونية. وهو ما يعيد إلى الذاكرة "ذكرى" ثبات الأسعار التي أصبحت متجذرة في سلوك الأسر والشركات.
الروبية المتدحرجة
حتى الروبية الهندية التي كان الرهان عليها كبيرا في أن تنضم إلى العملات الرئيسية في العالم، فقد تراجعت أمس الإثنين قرب أدنى مستوياتها على الإطلاق مقابل الدولار، بالتزامن مع تراجع الأسهم المحلية وسط توقعات تشديد السياسة النقدية من قبل الاحتياطي الفيدرالي، الأمر الذي ضغط على أصول الأسواق الناشئة.
ورغم امتلاك البنك المركزي الهندي نحو 600 مليار دولار من احتياطيات النقد الأجنبي التي يستخدمها للحد من أي تقلبات حادة في سوق الصرف، إلا أن الروبية تواصل تراجعها على خلفية تأثر الموارد المالية الخارجية للدولة سلبًا بسبب تزايد هروب الأموال والتدفقات الخارجة للأسهم، إلى جانب زيادة عجز الحساب الجاري الناتج عن ارتفاع أسعار النفط والسلع الأساسية.
يتكرر مشهد الروبية الهندية مع عملات أسواق ناشئة أخرى مثل الليرة التركية والجنيه المصري والراند الجنوب أفريقي، فهذه العملات تواجه ضغوطا شديدة بسبب رفع البنك المركزي الأميركي سعر الفائدة، وهو ما يضغط بشدة على عملات كل الأسواق الناشئة، ويسحب الأموال نحو الأسواق الغربية الأقل مخاطرة.
معظم عملات العالم ستواجه مخاطر شديدة في الفترة المقبلة، خاصة إذا ما رفع الفيدرالي الأميركي سعر الفائدة على الدولار بأكثر من المتوقع، وسحب الأموال من دول العالم نحو السوق الأميركي للاستفادة من الفائدة العالية سواء على العملة أو السندات، والمخاطر المتدنية.