سيطرت التعاملات الحذرة على أسواق المال في ختام العام الجاري بسبب الضباب الكثيف الذي يحجب الرؤية للمستقبل في أوروبا، علماً أنه غالباً ما يتجنب المستثمرون المخاطرة في الأيام الأخيرة من العام. ووسط تفاؤل حذر ارتفعت أسواق المال في كل من أوروبا وأميركا أمس الثلاثاء مستفيدة من رفع دول الاتحاد الأوروبي حظر السفر من وإلى بريطانيا والتوصل لاتفاق بين بريطانيا وفرنسا يسمح بعبور الشاحنات البريطانية إلى فرنسا. حسب تصريحات أدلى بها وزير النقل البريطاني، غرانت شابس مساء الثلاثاء.
ويرى محللون أن معنويات المستثمرين تأثرت قبل إغلاق الحسابات السنوية لعطلة أعياد الميلاد ورأس السنة بثلاثة عوامل رئيسية: الأول يتعلق بالتفشي السريع لسلالة كوفيد 19 الجديدة في بريطانيا، وما خلفته من تداعيات الحظر على حركة السفر والطيران من بريطانيا وإليها. وهنالك نحو 40 دولة حظرت حركة الطيران مع بريطانيا حتى مساء الاثنين. ولكن دول الاتحاد الأوروبي قررت مساء الثلاثاء رفع الحظر مع توخي الحيطة والحذر. والعامل الثاني، حظر فرنسا مرور الشاحنات البريطانية إلى أراضيها وما ترتب على ذلك من قلق ومخاوف في بريطانيا من احتمال عدم توفر المواد الغذائية الطازجة المستوردة من أوروبا في محلات السوبرماركت والمتاجر البريطانية. أما العامل الثالث، وهو العامل الإيجابي، فهو إجازة حزمة التحفيز المالي الأميركية البالغة 900 مليار دولار. ولكن رغم التعقيدات الخاصة بمفاوضات بريكست والحظر الفرنسي على مرور الشاحنات البريطانية، يلاحظ أن مؤشرات أسواق المال الأوروبية ارتفعت في تعاملات الظهيرة مستفيدة من آمال بنجاح التلقيح المكثف وربما التمكن من محاصرة السلالة الجديدة لجائحة كورونا في بريطانيا، ولكن سعر صرف الجنيه الإسترليني تراجع بسبب رفض دول الاتحاد الأوروبي لعرض بريطاني بزيادة حصتها من الصيد في المياه البريطانية.
على صعيد أزمة تكدس الشاحنات البريطانية في مقاطعة كينت حيث يوجد ميناء دوفر الذي تعبر به الشاحنات عبر القنال الإنكليزي إلى فرنسا، قالت وزيرة الداخلية بريتي باتيل، أمس الثلاثاء، إن الحكومة البريطانية وضعت خطة لإجراء فحص كورونا لجميع سائقي الشاحنات العابرة إلى فرنسا، لتنهي بذلك أزمة الحظر الفرنسي لحركة نقل السلع بين فرنسا وبريطانيا. وهو ما أدى لاحقاً إلى إقناع السلطات الفرنسية بفتح نقطة العبور في دوفر. وكالنت باتيل قد قالت في برنامج تلفزيوني، صباح أمس الثلاثاء، إن الحكومة البريطانية تتفاوض مع السلطات الفرنسية حول إجراء اختبارات الخلو من الإصابة بفيروس كوفيد 19 على جميع سائقي الشاحنات المغادرة بريطانيا إلى فرنسا. كما أكدت أن هنالك نحو 1500 شاحنة متكدسة حتى صباح الثلاثاء في مقاطعة كينت البريطانية، حيث يوجد ميناء العبور، دوفر، إلى فرنسا، ولكن عدد هذه الشاحنات ارتفع لاحقاً إلى 3000 شاحنة. وذكرت الوزيرة البريطانية أن إجراء الاختبارات جزء من النقاش الذي دار بين وزير النقل البريطاني ونظيره الفرنسي لحل مشكلة حركة النقل بين البلدين.
وأشارت باتيل في تعليقاتها الصباحية إلى أن هذه الاختبارات على السائقين يمكن أن تجرى بسرعة ولكن تفاصيل ما سيحدث عقب ذلك متروك لوزيري النقل في البلدين، "ولا أرغب في توقع تطورات الأحداث". وحتى الآن لا يوجد قلق لدى المستهلك البريطاني من عدم توفر المواد الغذائية الكافية حتى رأس السنة، ولكن هنالك قلقا من عدم توفر المواد الغذائية الطازجة التي تستوردها محلات السوبرماركت في حال تواصلت أزمة حظر فرنسا للشاحنات العابرة للقنال الإنكليزي ولم تحل خلال اليومين المقبلين.
وكان رئيس الوزراء البريطاني بوريس جونسون قد أجرى مكالمة هاتفية مع نظيره الفرنسي إيمانويل ماكرون، يوم الإثنين، حول أزمة الشاحنات والصيد البحري وصفها بانها كانت إيجابية. وهنالك تفاؤل في الأسواق بأن أزمة الحظر الفرنسي للشاحنات البريطانية يمكن أن تنتهي قبل حلول أعياد الكريسماس.
على صعيد بريكست، قالت مصادر بريطانية، أمس الثلاثاء، لنشرة باوند ستيرلنغ وأوردته كذلك عدة صحف بريطانية، إن الحكومة البريطانية قدمت تنازلات في قضية الصيد البحري، إذ خفضة نسبة الخفض الذي تطالب به سفن الصيد الأوروبية إلى نسبة 35% من النسبة السابقة البالغة 80%، كما رفعت مدة مراجعة حصص الأسماك من سنة إلى خمس سنوات. وهذا العرض قريب جداً مما تطالب به دول الاتحاد الأوروبي والبالغ نسبة 25%، ولكن رغم ذلك رفضت دول الاتحاد الأوروبي العرض. ولم تستبعد مصادر بريطانية أن يتمكن المفاوضون من تخطي عقبة صيد الأسماك وتوقيع اتفاق تجاري شامل بين بريطانيا ودول الاتحاد الأوروبي خلال الأيام المقبلة. وعلى الرغم من أن تجارة الأسماك لا تعادل سوى واحد في المئة من إجمالي الناتج المحلي البريطاني، إلا أن بريطانيا تستخدم حقها السيادي في الضغط على دول الاتحاد الأوروبي.
ورغم أن قضية الأسماك من الناحية الاقتصادية ليست ذات أهمية، إلا أن دولاً أعضاء في الاتحاد الأوروبي، على رأسها فرنسا وهولندا، تواجه ضغوطاً من صياديها الذين سيخسرون حصة الصيد في المياه البريطانية. وبالتالي فإن مسألة الصيد تنطوي على بعد سياسي واجتماعي كبير، رغم أهميتها الاقتصادية الضعيفة بالنسبة لكل من بريطانيا ودول الاتحاد الأوروبي.
على الصعيد البريطاني، يرى داعمو بريكست أن الصيد في المياه البريطانية جزء من السيادة البريطانية على حدودها التي تغولت عليها دول الاتحاد الأوروبي حينما دخلت بريطانيا في عضوية السوق المشتركة. وبالتالي يجب استعادة هذه الحدود بعد خروج بريطانيا من عضوية الاتحاد وعدم السماح لسفن الصيد الأوروبية بدخولها.
لكن في المقابل، فإن دول الاتحاد الأوروبي تربط قضية السماح لسفن صياديها بدخول المياه البريطانية بقضيتين، وهما: السماح للصيادين البريطانيين ببيع أسماكهم في السوق الأوروبي، والثانية تتعلق بموضوع الترتيبات الجمركية الخاصة بمرور السلع بين بريطانيا والكتلة الأوروبية دون جمارك أو ضريبة.
وتتركز المفاوضات المعقدة بين الجانبين على الحصة المسموح للصيادين بصيدها في المياه البريطانية. وحتى الآن سمحت بريطانيا لأوروبا بحصة 35%، وتقدر قيمة الصيد التي تحصل عليها سفن الصيد الأوروبية سنوياً من المياه البريطانية بنحو 600 مليون جنيه إسترليني، وفق البيانات الرسمية البريطانية.
وتريد بريطانيا خفض هذه الكمية إلى النصف. ويجري التفاوض حول منح سفن الصيد الأوروبية حصة أكبر. وتسمح اتفاقية صيد الأسماك بدول الاتحاد الأوروبي بدخول سفن الصيد في مياه أي دولة عضو، عدا حدود 14 ميلاً من السواحل البحرية للدولة. ولكن بريطانيا ستخرج من هذه الاتفاقية بعد الانفصال.
ويمكن تلخيص أزمة الأسماك بأن دول الاتحاد الأوروبي تريد ببساطة الاستمرار في الوصول إلى مياه صيد الأسماك الغنية في بريطانيا. إذ إن أكثر من نصف الأسماك والمحار التي يجري اصطيادها في مياه المملكة المتحدة يتم تمويل صيدها من قبل سفن دول الاتحاد الأوروبي. ولذلك تريد بريطانيا استعادة السيطرة على منطقتها الاقتصادية الخالصة والتخلي عن سياسة الاتحاد الأوروبي المشتركة في التعامل مع مصائد الأسماك.
وأدت قضية الأسماك إلى ارتباك في أسواق الصرف البريطانية، إذ إن الجنيه الإسترليني واصل التأرجح صعوداً وهبوطاً خلال الأيام الماضية تبعاً للتصريحات الصادرة من بروكسل، حيث تجرى المفاوضات. ويتوقع خبراء أن تقدم بريطانيا المزيد من التنازلات في سبيل التوصل لاتفاق تجاري. وكان البرلمان الأوروبي قد حذر من أنه لن يتمكن من التصديق على أي اتفاقية توقع بعد يوم الأحد الماضي.
على صعيد حزمة التحفيز الأميركية التي أجازها الكونغرس والبالغة 900 مليار دولار، فقد ساهمت في التعاملات المبكرة برفع معنويات المستثمرين في سوق المال "وول ستريت"، إذ ارتفعت المؤشرات الرئيسية الثلاثة لدى افتتاح أسواق المال أمس، الثلاثاء، وذلك وفق مؤشرات بلومبيرغ.
ويرى محللون أن حزمة التحفيز الأميركية ستواصل دعم أسعار الأسهم الأميركية حتى يتم تنصيب الرئيس المنتخب جو بايدن في 20 يناير/ كانون الثاني من العام المقبل، 2021.
ويتخوف المستثمرون في السوق الأميركي من احتمال فوز الحزب الجمهوري بانتخابات مجلس الشيوخ في ولاية جورجيا والسيطرة على مجلسي النواب والكونغرس، وهو ما يعني أن الرئيس جو بايدن سيتمكن من رفع الضرائب على الثروة والصفقات التجارية في سوق وول ستريت. ولذلك يلاحظ أن كبار الأثرياء يدعمون بقوة الحزب الجمهوري في انتخابات مجلس الشيوخ في جورجيا، على أمل عرقلة أي تشريعات مالية جديدة تمس ثرواتهم.