بينما تتراجع قيمة العملة اليابانية إلى أدنى مستوياتها مقابل الدولار في 24 عاماً، يتخوف خبراء في سوق النقد من تداعيات انهيار الين الكبير والسريع على إحداث تغير هيكلي في أسواق المال في جنوب شرقي آسيا والأسواق الناشئة، حيث إن الين عملة "الملاذ الآمن" في آسيا التي تهرع لشرائها المصارف الآسيوية وتجار الصرف في أوقات الأزمات.
في هذا الصدد، يرى الخبير وي هونغ زو، في تحليل لمركز "يورو آسيا" للدراسات، أن البنك المركزي الياباني (بنك اليابان) والحكومة اليابانية يقفان وراء التراجع الكبير في سعر صرف الين، لأنهما يعتقدان أن الين المنخفض سيساهم في رفع الصادرات اليابانية التي عادة تقود النمو الاقتصادي بالبلاد.
وتعاني الصادرات اليابانية منذ الصعود الاقتصادي الكبير للصين من تراجع أسواقها العالمية، حيث ترتفع كلفة الإنتاج في اليابان مقارنة بنظيرتها الصينية الرخيصة في الوقت ذاته الذي تقترب فيه التقنية الصينية المستخدمة في الصناعة من نظيرتها اليابانية. وقدر بنك نومورا الياباني في تقرير، هذا الأسبوع، تراجع الصادرات اليابانية بنسبة 1.6% خلال العام الجاري.
ومن بين الأدلة التي يعتمدها محللون للإشارة إلى أن الحكومة اليابانية تقف وراء تراجع الين، أن "بنك اليابان" (البنك المركزي)، قد أطلق شرارة التراجع السريع في سعر الصرف في إبريل/ نيسان الماضي، حينما أعلن عن شراء كميات غير محدودة من السندات الحكومية اليابانية لأجل 10 سنوات. وهو ما أعطى إشارة للمستثمرين في سوق الصرف بأن اليابان لا تمانع حدوث تراجع العملة أكثر وأنه سيواصل سياسة "التيسير الكمي"، أي التوسع في السياسة النقدية عبر شراء السندات على أمل رفع معدل التضخم إلى المستوى المستهدف.
وبلغت حيازة البنك المركزي الياباني من السندات الحكومية قرابة 50% من إجمالي حجم الدين الحكومي المقدر بنحو 8.3 تريليونات دولار، وفقاً للبيانات الحكومية، ولكن مصادر مستقلة تقدر حجمه بنحو 12 تريليون دولار. في هذا الصدد، يقول الخبير ببنك "بي أن بي باريبا" الاستثماري الفرنسي ريوتارو كونو: "لقد أصبح بنك اليابان بالفعل جزءاً من سياسة إدارة الديون لخدمة أهداف الحكومة".
وحذر الخبير الاقتصادي الدولي المخضرم وكبير اقتصاديي العملات لدى "غولدمان ساكس" الأميركي وقت الأزمة جيم أونيل، من أن استمرار تراجع الين الياباني مقابل الدولار نحو 150 ينًا من شأنه إحداث اضطرابات بحجم الأزمة المالية الآسيوية لعام 1997.
ونقلت وكالة "بلومبيرغ" عن أونيل قوله، الخميس، إن تراجع الين بهذا الحجم ستراه الصين كميزة تنافسية غير عادلة، ما يدفعها للتدخل في سوق العملات لحماية اقتصادها، لذا فإن أوجه التشابه مع الأزمة المالية الآسيوية واضحة تمامًا.
وقال أونيل: "إذا رأينا بنك اليابان المركزي متمسكًا بالتحكم في منحنى العائد، ورأينا استمرار ارتفاع عائد السندات في الولايات المتحدة، فإن هذا النوع من الزخم والتداعيات يمكن أن يخلق مشاكل حقيقية في بكين".
وتراجع الين الياباني بالفعل بنحو 14% خلال العام حتى الآن، كما انخفض أمام الدولار إلى 134.56 ينا في وقت سابق من تعاملات الخميس، وهو أضعف مستوى منذ إبريل 2002، مدفوعًا بتمسك بنك اليابان بالسياسة التيسيرية مقابل تشديد السياسة النقدية من قبل البنوك المركزية العالمية الأخرى.
جدير بالذكر أنه خلال أزمة عام 1997، حث عدد من الدول، ومن بينها الولايات المتحدة واليابان، الصين على عدم تخفيض قيمة اليوان، إذ إن ضعف العملة قد يؤدي إلى سلسلة من ردود الفعل السلبية. وأوضح أونيل أن الصين لعبت دورًا في "إنقاذ المنطقة" الآسيوية حينئذ وقد يكون مستوى نفوذها أكبر الآن.
وعانى الاقتصاد الياباني من ركود طويل، وتأمل الحكومة اليابانية قيام الشركات برفع معدل الأجور، لزيادة القوة الشرائية داخل اليابان التي تعتبر مهمة لزيادة معدل النمو الاقتصادي. ولا يستبعد خبراء أن تضحي الحكومة بالدين السيادي المتفاقم لفترة محدودة.
وحسب شركة "تريدينغ إيكونومكس" للبيانات المالية، يقدر أن يبلغ حجم الاقتصاد الياباني بنهاية العام الجاري 5.9 تريليونات دولار. ويرى محللون أن الحكومة اليابانية لم تعد مهتمة بالدين السيادي بقدر ما هي مهتمة برفع معدل النمو الاقتصادي عبر تحفيز الصادرات الخارجية وزيادة القوة الشرائية المحلية في البلاد عبر رفع الأجور. وكان رئيس البنك المركزي الياباني هيرو هيكو كورودا قد قال في تعليق على تراجع العملة المحلية: "استقرار سعر صرف الين الضعيف شيء إيجابي للاقتصاد الكلي في اليابان، على الرغم من تداعياته السلبية على بعض القطاعات".
إن هذه السياسة النقدية تواجه انتقادات من قبل بعض مسؤولي المال السابقين في اليابان، حيث قال وزير المالية الياباني السابق فوكشيرو نوكاغا: "إن مهمة الحكومة الحفاظ على الثقة في العملة وفي السياسة المالية"، كما كتب نائب وزير المالية في دورية يابانية متخصصة يقول: "لا أدرى إلى متى ستستمر سياسة الدين المرتفع لتحدث انهياراً في الاقتصاد"، وذلك وفقاً لما نقلته صحيفة "وول ستريت جورنال".
ومن بين العوامل الأخرى التي تدفع اليابان لتبني سياسة "التيسير الكمي"، حرصها على عدم هروب رأس المال من البلاد إلى الاستثمار في الولايات المتحدة، حيث إن سعر صرف العملة المنخفض جداً مقابل الدولار عادة ما يدفع الشركات والبنوك نحو الاحتفاظ باستثماراتها في البلاد خوفاً من تكبد خسائر.
ويستخدم المستثمرون في آسيا العملة اليابانية كـ"عملة حاملة للتجارة" في سوق الصرف العالمي، أي أنها عملة ذات فائدة منخفضة يمكن الاقتراض بها للاستثمار في الأسواق ذات الفائدة المرتفعة.
في هذا الاتجاه، يقول الدكتور هونغ زو: "صحيح أن الين بهذا السعر المنخفض سيساهم في لجم هروب رأس المال إلى السوق الأميركي، ولكنه في المقابل ربما يقود إلى مخاطر على مستقبل الين، وربما يخسر موقعه كـ"عملة ملاذ آمن" في آسيا".
وإلى جانب هذه الأسباب، يرى محللون أن هنالك مجموعة من العوامل الأخرى وراء التراجع السريع في سعر صرف الين، من بينها تزايد عجز الميزانية الأميركية مقابل تزايد العجز في اليابان. وكذلك توقعات الأداء القوي للنمو الاقتصادي في الولايات المتحدة مقارنة بتراجعه في اليابان والفجوة بين العائد المرتفع على السندات الحكومية في الولايات المتحدة مقارنة بالعائد عليها في اليابان. يذكر أن تراجع الين الياباني ساهم في ارتفاع مؤشر الدولار الذي ارتفع بنسبة 20% منذ بداية العام الماضي.
يلاحظ أن الدولار واصل ارتفاعه مقابل العملة اليابانية، أمس الخميس، واقترب من سعر 134 يناً للدولار، وفقاً لبيانات بلومبيرغ. ولا يستبعد محللون أن يواصل الين تراجعه إلى مستواه المنخفض جداً في العام 1998، حينما ضربت أزمة المال أسواق جنوب شرقي آسيا.
وعلى الرغم من أن مسؤولين حكوميين يربطون بين سياسة خفض قيمة الين الياباني وخطة زيادة إيرادات السياحة، إلا أن القطاع السياحي في اليابان يعاني نقصا في عدد الزوار الأجانب رغم انخفاض قيمة العملة قرب أدنى مستوياتها في عقدين، الأمر الذي عادة يجذب السياح للبلاد.
وحسب ما ذكرته "بلومبيرغ"، أشار رئيس الوزراء فوميو كيشيدا أخيرًا إلى أن تخفيف الإجراءات الحدودية سيسمح بعودة السياح لزيارة اليابان بعد توقف دام أكثر من عامين.
ومع ذلك، من الصعب عودة عدد السياح إلى مستويات اقتربت من 32 مليون سائح قبل انتشار وباء "كوفيد-19". وأفادت تعليقات كيشيدا بأنه يتطلع إلى جعل القيود المفروضة على دخول البلاد معادلة لأعضاء مجموعة السبع الآخرين، وهو ما يشير إلى أن قيود اليابان كانت أكثر صرامة من معظم الاقتصادات الكبرى الأخرى.
ويظهر التأثير السلبي لضعف قطاع السياحة على الاقتصاد الياباني، إذ يفتقد مكاسب سياحية من الإنفاق المباشر للسياح الأجانب بلغت نحو 4.8 تريليونات ين (37 مليار دولار)، في عام 2019 قبل انتشار جائحة كورونا. ولا يتوقع المحللون انفتاحًا كبيرًا، خاصة قبل الانتخابات، هذا الصيف، فيما يدرس رئيس الوزراء إعادة فتح الحدود للسائحين الأجانب في جولات جماعية في وقت مبكر من الشهر الجاري.