المشروعات القومية في مصر تدخل معترك الأزمة المالية

22 سبتمبر 2022
عامل يباشر زراعة الزهور بالقرب من مبنى حكومي في العاصمة الإدارية الجديدة (فرانس برس)
+ الخط -

وسط حالة من الغضب الشعبي ناتجة عن الظروف الاقتصادية الصعبة وغلاء المعيشة نتيجة نقص العملة الأجنبية التي تحتاجها البلاد لاستيراد معظم احتياجاتها، يبدو أن هناك توجهاً داخل النظام المصري يدفع باتجاه إعادة التفكير في جدوى الاستمرار في تنفيذ ما تسمى "المشروعات القومية" بنفس الوتيرة في الوقت الحالي، سيما مع الأزمة المالية التي تمر بها الحكومة.
وتتبنى دوائر سياسية، وبعض الشخصيات من جانب المعارضة، فكرة مد أجل تنفيذ "المشروعات القومية"، لتلافي آثار الأزمة الاقتصادية التي تعيشها البلاد، من جهة، وتفادي غضب الشارع من جهة أخرى، وخصوصاً أن تكاليف تلك المشروعات، زادت بشكل كبير نتيجة أن معظم الخامات والمعدات التي تستخدم فيها تكون مستوردة من الخارج، وذلك ما يحتاج إلى عملة أجنبية، لكن ذلك التوجه يبدو أنه يلقى معارضة من أجنحة أخرى داخل النظام.
ويفسر سياسي حزبي ما ذكرته المذيعة لميس الحديدي في برنامجها "كلمة أخيرة" والذي يبث على قناة "أون"، من أن الفترة المقبلة ستشهد سياسة مرنة لسعر الصرف يتبعها تراجع لقيمة الجنيه أمام الدولار.

الحديدي قالت في برنامجها إن "الدور الآن على الدولة قبل المواطن، ولازم (لا بد) الدولة تحدد أولويات المشروعات، ما ينفعش (لا يمكن) تقول هعمل كل حاجة.. فإذا كنت أنت هتعمل كده بتطلب منى ليه كمواطن أرشد؟".

وأضافت: "هتكملوا المشروعات كلها منين في الوضع ده.. لازم كمواطن أحس أن الدولة بترشد معايا مش بس بتطفي النور.. ترشيد الحكومة في أولويات المشروع ولازم المواطن يحس بده (بذلك) عشان يقدر يرشد وإنما مقدرش أطلب من المواطن ترشيد أكتر من كده".
وما يشير أيضاً إلى وجود جناح آخر داخل الدولة، يرفض هذه الفكرة، ما حصلت عليه "العربي الجديد" من معلومات أيضاً تفيد بأن حديث الحديدي عن المشروعات القومية، لم يعجب بعض المسؤولين، وهو ما دفعهم إلى إصدار تعليمات بحذف الأخبار التي تناولت تصريحات الحديدي من المواقع التابعة للشركة "المتحدة للخدمات الإعلامية".

مصادر فنية هندسية، أكدت أن الرئيس عبد الفتاح السيسي أصدر تعليمات بوقف مشروع "تبطين الترع" بشكل مؤقت، على أن يستكمل في وقت لاحق، وأن ذلك جاء في إطار سياسة تنفيذ المشروعات الضخمة على آماد طويلة الأجل.
وأوضحت المصادر أنه "نتيجة الأزمة الحالية، الخاصة بنقص العملة الأجنبية، فإن هناك توجهاً داخل الدولة لتقليل الإنفاق على المشروعات الكبرى مثل العاصمة الإدارية وغيرها، بمعنى أنه بدلاً من أن تنفذ تلك المشروعات في 5 سنوات، يجري تنفيذها في عشر".
وتصاعد حديث داخل الأوساط المتخصصة في مجالات الري والزراعة في مصر، بشأن جدوى ما أطلق عليه "المشروع القومي لتبطين الترع"، وسط تساؤلات حول حجم المردود من وراء ذلك المشروع، مقارنة بحجم الأموال الضخم الذي تم ضخه فيه، خاصة أنه يأتي في وقت يعاني فيه الاقتصاد المصري من أزمة خانقة، تسببت في صدور تعليمات رئاسية بترشيد الإنفاق بكل قطاعات الدولة.
البداية كانت في اجتماع لوزير الري المصري هاني سويلم، في الثاني عشر من سبتمبر/ أيلول الجاري، مع قياديي الوزارة، الذين بحث معهم، بحسب بيان رسمي جرى تعميمه على الصحافيين، "البدائل المتاحة لتأهيل وتبطين الترع، ومدى ملاءمة استخدام تقنيات أكثر استدامة في أعمال التأهيل، مع التأكيد على إجراء دراسة لكل ترعة، لتحديد أسلوب التبطين الأمثل، ومدى احتياج الترعة للتأهيل، سواء جزئياً أو كلياً، وذلك طبقا للمعايير الجاري إعدادها حاليا"، وهو ما يعني بشكل واضح إعادة النظر في المشروع الذي كلف خزينة الدولة المصرية عشرات المليارات من الجنيهات، طارحاً تساؤلات مهمة بشأن ما إذا كان ذلك المشروع حظي بدارسة كافية قبل الشروع في تنفيذه أم لا، وفق المصادر.

وقالت المصادر إن "فكرة تبطين الترع في مصر، جاءت بالأساس، من تكنولوجيا ألمانية معروفة تستخدم في هذا المجال، لكن تنفيذها في مصر، جرى دون استخدام التكنولوجيا الألمانية نفسها، ولكن بالاعتماد على الخامات والطرق المحلية، وهو ما أدى إلى ظهور عيوب فنية في أثناء التنفيذ".

وكان المشروع الذي جرى تنفيذه بتوجيهات رئاسية مباشرة، يستهدف تبطين 20 ألف كيلومتر من الترع في مراحله المختلفة، وكان الهدف الرسمي المعلن هو "ترشيد المياه وتقليل الفاقد منها، وتحقيق العدالة في توزيعها، وإنهاء أزمة عدم وصولها إلى بعض المناطق، ورفع كفاءة الأراضي في المناطق التي جرى تبطين الترع بها، إلى جانب القضاء على التلوث الناتج عن الترع القديمة قبل التبطين".

وحسب ما أعلنته وزارة الموارد المائية والري، وصل إجمالي ما جرى تنفيذه من أعمال تأهيل وتبطين الترع إلى أكثر من 5614 كم من الترع في 20 محافظة، ضمن أعمال المرحلة الأولى للمشروع التي تهدف إلى تبطين 7 آلاف كيلومتر.
ووفقاً لموقع الهيئة العامة للاستعلامات (الرسمي)، "تبلغ أطوال الترع في مصر 33 ألف كيلومتر تقريباً، تمتد من الإسكندرية شمالاً حتى أسوان جنوباً، تم إنشاؤها في عهد محمد علي أي منذ 200 عام تقريباً، بالتالي كلها ترع طينية لا يوجد بها تبطين وتتعرض المياه فيها للفقد، ويقدر الفاقد منها بنحو 19 مليار متر مكعب".

ووفق هيئة الاستعلامات فإن "مشروع تبطين الترع سيوفر للدولة ما يتراوح بين 15 و19 مليار متر مكعب من المياه المهدرة".
بموازاة ذلك، قال المهندس شحتة إبراهيم، رئيس مصلحة الري التابعة لوزارة الري والموارد المائية المصرية، في تصريحات تلفزيونية سابقة، إن "المرحلة الأولى لمشروع تبطين الترع تكلفت 18 مليار جنيه (حوالي 927 مليون دولار وفق سعر الصرف حاليا)، ومن المقرر أن تتكلف المرحلة الثانية 80 مليار جنيه".
الحديث الرسمي بشأن حجم ما يمكن أن يوفره المشروع من المياه المهدرة، رد عليه الدكتور عباس شراقي أستاذ هندسة المياه بجامعة القاهرة، قائلاً إن "الحديث عن توفير 4 مليارات متر مكعب نتيجة التبطين غير حقيقي ولا يصل إلى ربع هذه الكمية".
وأضاف شراقي، في منشور حديث له على حسابه الرسمي بموقع التواصل الاجتماعي فيسبوك أن "التبطين لا يوفر الكثير من المياه لأن التربة الزراعية في الوادي والدلتا طينية، حركة المياه فيها بطيئة (النفاذية)، كما أنها مشبعة بالمياه بالفعل حيث يرتفع فيها منسوب المياه الجوفية، بالإضافة إلى أن المياه المتسربة من الترع أو من الري بالغمر لا تهدر في البحر أو الصحراء ولكن يتم استخراجها مرات عدة كمياه جوفية متجددة في الوادي والدلتا تصل كميتها إلى حوالى 8 مليارات متر مكعب سنوياً نتيجة التسرب أساساً من الري بالغمر لحوالي 5.5 ملايين فدان".

المشروع الذي جرى تنفيذه بتوجيهات رئاسية، يستهدف تبطين 20 ألف كيلومتر من الترع في مراحله المختلفة، والهدف المعلن هو "ترشيد المياه

وأوضح أن "تبطين الترع يعتبر علاجاً ضرورياً في بعض الحالات التي لا تصل فيها المياه إلى النهايات لأسباب عدة منها انهيار جوانب الترع وترهلها، وانتشار الحشائش والقمامة، وتشغيل عدد كبير من طلمبات رفع المياه القوية في بدايات الترع، وتسمى تلك الترع بـ (المتعبة)، وهناك أولويات لهذه الترع للتبطين".

وتطرق شراقي إلى "القيمة المضافة من خطوة تأهيل الترع مقارنة بالتكلفة" قائلاً: "لتبطين الترع فوائد متعددة مثل زيادة سرعة المياه ووصولها للنهايات، وتحسين جودة المياه، وعودة الترع لأبعادها الأصلية، والمنظر العام الحضاري، وتوفير بعض تكاليف تطهير الترع من الحشائش، وغيرها، ولكن نظراً للأوضاع الاقتصادية الحالية، وعدم الجدوى الاقتصادية من ناحية توفير كميات كبيرة من المياه، فمن الأولى أن نكتفي بما تم حتى الآن ولا مانع من تبطين بعض الترع الأخرى مستقبلاً في حالة الضرورة كعلاج لكي تصل المياه إلى النهايات".
حديث شراقي، يعززه، حديث آخر لأكاديمي مصري آخر متخصص في مجال الري، بإحدى الجامعات المصرية، أكد بدوره أن "المنافع المحققة من وراء المشروع القومي لتبطين الترع، لا تتناسب تماماً مع حجم الأموال المنفقة عليه" بحسب تعبيره، مشدداً على أن "المشروع يناسب دولة تعيش حالة رفاهية اقتصادية وليس دولة بظروف مصر الاقتصادية الحالية".

أكاديمي مصري: "المنافع المحققة من وراء المشروع القومي لتبطين الترع، لا تتناسب تماماً مع حجم الأموال المنفقة عليه

وشدد على أن "عبارة (مشروع قومي)، ابتذلت مؤخراً في كثير من الأعمال، وهو ما دفع المتخصصين، إلى النأي بأنفسهم عن إبداء رأيهم في تلك المشروعات، خاصة أن مسمياتها مرتبطة بمؤسسة الرئاسة، بما سيجعل من ينتقدها أو يحاول تقديم رؤى أفضل وأكثر مناسبة للحالة المصرية، في مرمى الاتهامات"، داعياً في الوقت ذاته إلى "ضرورة عدم إنفاق المزيد في هذا المشروع وإعادة النظر فيه ودراسة كل حالة على حدة".

المساهمون