مساء يوم الخميس 10 يناير، بلغت قيمة الدولار حدود الـ31 ألف ليرة لبنانيّة، في مقابل نحو 24.3 ألف ليرة في بداية شهر ديسمبر/كانون الأوّل الماضي. أي بمعنى آخر، ارتفعت قيمة الدولار مقابل الليرة بنحو 28% خلال فترة قصيرة لا تتجاوز الشهر ونصف، ما يشير بوضوح إلى تسارع وتيرة التدهور في قيمة الليرة منذ ذلك الوقت.
وهذا التدهور السريع، جاء بالرغم من تزامن هذه الفترة بالتحديد مع موسم الأعياد، وما يرافقه من تدفّق للعملة الصعبة إلى السوق المحليّة نتيجة توافد المغتربين إلى البلاد خلال العطلة. وبذلك، جاءت هذه التطوّرات بخلاف المتوقّع من فترة يُفترض أن تهدأ فيها الضغوط على قيمة الليرة اللبنانيّة في سوق القطع.
في واقع الأمر، كمنت المفارقة الأساسيّة في حصول هذا التدهور السريع في سعر صرف الليرة بالرغم من إطلاق المصرف المركزي تعميمه الأخير رقم 161 في منتصف الشهر الماضي، والذي طلب من المصارف بيع الدولار النقدي لعملائها وفقًا لسعر منصّة التداول الشرعيّة بالعملات الأجنبيّة، الذي يقل بنحو 20% عن سعر صرف السوق السوداء.
تدهور سعر الليرة
وبهذه الطريقة، قامت المصارف بتأمين السحوبات من الحسابات المصرفيّة بالدولار بدل الليرة، عبر بيع عملاء المصارف الدولارات عبر هذه الآليّة مقابل سحوباتهم النقديّة بالعملة المحليّة.
أمّا رهان المصرف المركزي هنا، فكان على ضخ المزيد من العملة الصعبة في السوق الموازية، بهدف ضبط الارتفاعات التي كانت تحصل في قيمة الدولار والحد من تدهور سعر صرف الليرة اللبنانيّة.
ورغم كل هذه المحاولات، وبالرغم من الكلفة الباهظة لهذا الإجراء، والتي تجاوزت حدود الـ100 مليون دولار في الأسبوع الواحد، لم ينجح المصرف المركزي في لجم التدهور في قيمة الليرة طوال الأسابيع الماضية على النحو الذي ذكرناه.
ولهذا السبب بالتحديد، ذهب حاكم المصرف المركزي، رياض سلامة، خلال الأيام الماضية إلى ما هو أبعد من هذا التعميم المكلف، من خلال فتح باب بيع الدولارات في المصارف وبحسب سعر منصّة التداول الرسمي، دون ربط عمليّة بيع الدولار بعمليّات السحب النقدي كما كان الحال سابقًا.
ولذلك، من المتوقّع أن تتضاعف كميّة الاستنزاف الأسبوعي من الدولارات التي يضخّها المصرف المركزي، لتمويل عمليّات بيع الدولار بهذا الشكل، دون وجود ما يضمن عدم فشل الخطوة، تمامًا كما فشل التعميم رقم 161 الذي صدر في منتصف الشهر الماضي دون أن يؤدّي أي دور على مستوى ضبط تدهور سعر صرف الليرة.
فئات محظيّة من المودعين
مع الإشارة إلى أن ثمّة علامات استفهام لا تنتهي حول طريقة تطبيق كل هذه التعاميم داخل فروع المصرفيّة، وتحديدًا من جهة الاستنسابيّة التي تحكم تنفيذها، واستفادة فئات محظيّة من المودعين من هذه "الدولارات المدعومة" دون سائر الفئات.
لا بل ثمّة تساؤلات أهم تدور اليوم حول آليّات عمل منصّة التداول الرسميّة بالعملات الأجنبيّة نفسها، وطريقة تحديد سعر الصرف المعتمد فيها، الذي لا يخضع لموازين العرض والطلب المعروفة. ففي الوقت الراهن، يقتصر دور المنصّة على ضخ أو امتصاص الدولار وفقًا لحاجة المصرف المركزي، دون أن تمثّل أداة تداول حرّة بالعملات الأجنبيّة.
في كل الحالات، لا يحتاج المرء كثيرًا لفهم أسباب فشل جميع الإجراءات التي قام بها المصرف المركزي في إطار تعامله مع أزمة سعر الصرف، والتي اتسمت جميعها بالتخبّط البعيد عن أي رؤية أو خطّة متكاملة لإدارة الأزمة.
فالدولارات التي يقوم المصرف المركزي بضخّها في السوق اليوم، وبسعر صرف منصّة التداول الرسميّة المنخفض، هي نفسها الدولارات التي يقوم بجمعها من السوق الموازية وبحسب سعر صرفها المرتفع.
بمعنى أوضح، ما يقوم به المصرف المركزي ليس سوى شراء الدولار بسعر السوق، ومن ثم ضخّه عبر المصارف عبر بيعه بسعر مدعوم، يقل بنحو 20% عن سعر السوق.
باختصار، ما يسوّقه المصرف المركزي –في إطار حربه النفسيّة على مضاربات السوق السوداء- كعمليّة ضخ للدولار، ليس سوى إعادة تدوير لدولارات السوق الموازية نفسها.
لكنّ هذه العمليّة انطوت على كلفة فادحة تكبدّها المصرف المركزي، من خلال الفارق بين كلفة شراء الدولار بسعر السوق الفعلي، وسعر بيعه المدعوم نسبيًّا في المصارف.
تضخيم الكتلة النقديّة
وهذه العمليّة التي جرى تمويلها بالليرة اللبنانيّة، ومن خلال خلق النقد، أدّت في المحصّلة إلى تضخيم الكتلة النقديّة المتداولة بالليرة اللبنانيّة، ما أسهم في زيادة الضغط على سعر صرف العملة المحليّة في السوق الموازية.
ولهذا السبب تحديدًا، تظهر ميزانيّة المصرف المركزي أنّه قام بخلق ما يقارب 393 مليار ليرة من النقد بالعملة المحليّة، في النصف الثاني من شهر كانون الأوّل/ديسمبر الماضي، بالتزامن مع بدء تطبيق التعميم 161.
بمعنى آخر، وبدل أن يسهم التعميم في إعادة التوازن لسعر صرف الليرة عبر زيادة المعروض من النقد بالعملة الصعبة، كانت النتيجة إعادة تدوير دولارات السوق الموازية وزيادة المعروض من النقد بالعملة المحليّة، وهو ما فاقم من أزمة سعر صرف الليرة بدل معالجتها.
على أي حال، من المعلوم أن المصرف المركزي يواظب على جمع الدولارات من السوق الموازية لأسباب أخرى، كجمع الاحتياطات لتمويل بيع الدولارات لاستيراد الوقود مثل البنزين، من خلال منصّة التداول بالعملات الأجنبيّة أيضًا، أو تمويل بعض عقود الدولة المقوّمة بالعملة الصعبة.
كما يواظب المصرف المركزي على خلق النقد بالعملة المحليّة لأسباب مختلفة أيضًا، كإقرار الدولة لتمويل نفقاتها، وإقراضها لسداد ديونها بالعملة المحليّة للمصارف التجاريّة، بالإضافة إلى تمويل السحوبات بالليرة اللبنانيّة من الودائع المقوّمة بالعملات الأجنبيّة.
وفي حصيلة كل هذه العمليّات التي يقوم بها المصرف المركزي بنفسه، تستمر الضغوط الناتجة عن زيادة الطلب على العملة الصعبة في السوق الموازية، فيما تستمر الكتلة النقديّة المتداولة بالليرة بالتضخّم.
ونتيجة العاملين معًا، ليست سوى تكثيف الضغط على سعر صرف العملة المحليّة، ودفعه إلى المزيد من الانخفاض، في تجلّ واضح لعبثيّة وتخبّط السياسة النقديّة المتبعة من قبل المصرف المركزي.
كلفة هذه الأزمات
وهذه العبثيّة تبدأ قبل كل شيء من تحميل السياسة النقديّة كلفة التعامل مع جوانب الأزمة المتعلّقة بعجز الميزانيّة العامّة وتعثّر القطاع المصرفي، وهو ما يعني تحميل جميع المقيمين المتأثرين بتدهور سعر الصرف كلفة هذه الأزمات.
باختصار، ما يحتاجه لبنان حاليًّا ليس مجموعة من القرارات المتفرّقة والمتخبّطة من ناحية آثارها وأهدافها النقديّة، كما لا تحتاج البلاد حتمًا المعالجات القائمة على شراء الوقت على حساب الاستمرار بضرب قيمة الليرة اللبنانيّة.
ما تحتاجه البلاد هو سياسة نقديّة قادرة على توحيد أسعار الصرف المتعددة، واستيعاب تداولات سوق القطع الموازية ضمن النظام المالي، وبآليّات واضحة تحدد سعر الصرف وفقًا لموازين العرض والطلب.
عندها فقط، سيكون بإمكان المصرف المركزي التدخّل في سوق القطع بشكل منظّم وهادف ومدروس، بما يسمح بالحفاظ على توازن سعر صرف العملة المحلّية، بالتوازي مع جميع المعالجات التي يفترض أن يتم القيام بها لمعالجة سائر جوانب الانهيار الاقتصادي.