في أعقاب العدوان الإسرائيلي الأخير على لبنان، يجد أبو يوسف (صاحب محل بقالة صغير في بلدة إبل السقي الجنوبية) نفسه أمام واقع جديد يختلف عن كل ما مرّ به خلال سنوات الأزمات السابقة. "أصعب من كل الحروب التي عشناها"، كما يقول لـ"العربي الجديد"، متحسراً على محله المُدمّر جزئياً.
منذ بدء الغارات، لم يتمكن أبو يوسف من فتح متجره كما اعتاد. الطرقات مغلقة، الناس نزحوا من قريتهم، والمواد التموينية التي اعتاد بيعها فسدت تحت الأنقاض. "كنا نعيش على القليل"، لكن اليوم أصبح يعيش على انتظار الحوالات، من ابنه في ألمانيا الذي يرسل 300 يورو شهرياً.
مع انهيار الليرة اللبنانية، أصبح لهذه الحوالات أهمية مضاعفة. قبل الحرب، كان أبو يوسف يغطي احتياجاته الأساسية بشيء من الصعوبة، "لكن بعد العدوان، ارتفعت الأسعار بشكل جنوني، ولا يمكننا شراء أي شيء إلا بالدولار"، حسب أبو يوسف الذي يضيف: "كل ما نملكه الآن هو هذه الحوالة التي ننتظرها كل شهر، وأخشى أن تتوقف فجأة".
تحويلات المغتربين
تعتمد العديد من العائلات اللبنانية على التحويلات المالية من أقاربها المغتربين. تقول ميسون (مغتربة تعمل في السعودية) إنها ترسل الأموال بانتظام إلى عائلتها التي لا تزال في الجنوب. توضح أن هذا الدعم المالي يسهم في تغطية النفقات الأساسية، مشيرة إلى أن واجبها تجاه أفراد العائلة يحتّم عليها هذا الأمر، وتأمل أن تساهم تحويلاتها في تحسين أوضاعهم ولو قليلاً، خاصة في ظل العدوان الإسرائيلي على لبنان.
في هذا السياق، قدّر البنك الدولي حجم تحويلات المغتربين الوافدة إلى لبنان بستة مليارات دولار في عام 2023، مقارنة بـ 6.4 مليارات دولار في عام 2022، ليحل بذلك لبنان في المركز الثالث إقليمياً مسبوقاً بمصر (19.5 مليار دولار) والمغرب (11.8 مليار دولار)، فتلك التحويلات تلعب دوراً محورياً في دعم الاقتصاد الوطني.
صرّح الخبير الاقتصادي جاد شعبان، لـ"العربي الجديد"، بأن الحرب الراهنة تلقي بظلالها السلبية على مداخيل الأفراد في لبنان، إذ تتأثر كافة الإيرادات المرتبطة بالتبادل التجاري الخارجي. وأوضح أن الصادرات تتراجع، كما أن المواطنين الذين يعتمدون في أعمالهم على تحويلات أو عقود خارجية، مثل الخدمات والأعمال الهندسية، يعانون من خسائر، خصوصا في المناطق المستهدفة بالقصف الإسرائيلي.
وأشار شعبان إلى احتمال ارتفاع التحويلات المالية من المغتربين خلال هذه الأزمة، لتكون نوعاً من المساعدات الطارئة لتغطية الإيجارات والنفقات الطبية. ومع ذلك، أكد أن هناك تراجعاً في التحويلات من لبنان إلى الخارج، يقابله زيادة في التحويلات الواردة، خاصة إلى النازحين.
تابع شعبان: أن النقد الأجنبي الذي كان يعتمد عليه اللبنانيون عبر الصادرات الزراعية والخدمات السياحية وتحويلات المغتربين، بات شبه متوقف. وبيّن أن لبنان يعتمد حالياً على التحويلات العائلية من الخارج لتأمين الاحتياجات الأساسية. وحذّر من كارثة محتملة إذا تراجعت هذه التحويلات أو تم فرض عقوبات تعيق تدفقها، إذ ستُغلق بذلك النافذة الوحيدة أمام الناس لتأمين معيشتهم.
المساعدات الدولية ليست كافية
شدد شعبان على أن المساعدات الدولية ليست كافية، خاصة على الصعيد الإنساني، مضيفاً أن التحدي الأكبر هو كيفية توزيع هذه المساعدات بشكل عادل، مشيراً إلى أنه حتى لو تم توفير الأموال المطلوبة، فإن الفساد في التوزيع قد يؤدي إلى تفاقم الأزمة. لذلك، دعا إلى إطلاق مبادرة وطنية تُشرك المتضررين مباشرة، عبر تمثيلهم في لجان محلية تضم رؤساء بلديات وجمعيات وأفرادا من المجتمع المدني، بهدف تحسين إدارة المساعدات وحشد الدعم الدولي، مؤكداً أن الحل السياسي هو المدخل الأساسي لمعالجة الأزمة، واستمرار العدوان سيزيد من حجم الأضرار، مما يجعل إعادة الإعمار وعودة النازحين أكثر صعوبة.
وأضاف أن تجاوز هذه الأزمة يتطلب تعاوناً وطنياً شفافاً بين المجتمع المحلي والجهات الدولية، محذراً من أن الهيئات الدولية لا تستطيع تقديم مساعدات فعالة من دون التنسيق مع المجتمعات المستفيدة. وشدد على ضرورة إعادة النظر في الأولويات عند تقديم المساعدات، بحيث يتم التركيز على المساعدات العينية أولاً، تليها مساعدات مالية سريعة وتأمين مساكن بديلة للمتضررين. وأكد أهمية تحفيز القطاعات الإنتاجية، لإعادة بناء المجتمعات والنهوض بالاقتصاد.
وذكر برنامج الأمم المتحدة الإنمائي في تقريره الأخير أن العواقب ستستمر لسنوات، حتى لو انتهت الحرب في عام 2024، ومن المحتمل أن ينكمش الناتج المحلي الإجمالي 2.28% في عام 2025، وبنسبة 2.43% في عام 2026.
وأضاف البرنامج أن قيمة الأضرار التي لحقت بالبنية التحتية والإسكان والقدرات الإنتاجية، كالمصانع، من المرجح أن تكون قريبة من تلك التي ألحقتها حرب 2006، وتراوحت بين 2.5 مليار و3.6 مليارات دولار، ولكنه حذر من زيادة حجم الأضرار في لبنان، مضيفاً أنه من المتوقع انخفاض عائدات الحكومة اللبنانية 9%، وتراجع إجمالي الاستثمارات بأكثر من 100% خلال عامي 2025 و2026.
هدف البقاء على قيد الحياة في لبنان
صرّحت المتخصصة في الاقتصاد النقدي، ليال منصور، لـ"العربي الجديد"، أن تحليل الاقتصاد في زمن الحرب يختلف تماماً عن الاقتصاد في ظروف السلم. وأوضحت أن الحديث عن استقرار، نمو، استثمارات، أو توظيف، يصبح غير واقعي في ظل الحرب، حيث يرتكز الاقتصاد على استمرارية الحياة وليس على التطوير. وبيّنت أن أي تحويلات أو مساعدات تصل إلى لبنان تهدف بشكل أساسي إلى البقاء على قيد الحياة، خاصة في ظل توقف معظم الأعمال.
وأشارت منصور إلى أن لبنان يستقبل سنوياً بين 6 و7 مليارات دولار، بغض النظر عن وضع الاقتصاد المحلي. وتزداد هذه التحويلات في حال وجود سياح أو استقرار نسبي. وأوضحت أن اللبنانيين الذين لديهم أقارب في الخارج يعتمدون عليهم في تلقّي الدعم المالي، سواء في أوقات الأزمات أو السلم. لكنها لفتت إلى أن هذا النوع من الدعم لا يعوض الخسائر الكبيرة التي يواجهها النازحون، خاصة في الجنوب، حيث تهدمت المدارس والمطاعم والمحلات التجارية. كما أضافت أن هناك جزءاً من السكان الذين كانوا يتلقون دعماً مالياً من جهات سياسية، مثل حزب الله أو إيران. وبالتالي، النقص في هذه الأموال لا يمكن تعويضه بالمساعدات الدولية فقط.
وأكدت منصور أن المساعدات المالية القادمة من الخارج، سواء من منظمات دولية أو دول داعمة، تهدف إلى استمرارية الحياة وليس إلى بناء اقتصاد مستدام، مشيرة إلى أن عدداً كبيراً من الأشخاص يعيشون حالياً في مراكز إيواء، وأن معالجة الأزمة لا تتم عبر تقديم الأموال فقط، بل تتطلب خططاً للإصلاح وإعادة البناء.
وقالت: "نحن نشتري البنزين من هذه المساعدات، وبالتالي إذا توقفت المساعدات، فسينهار البلد". وشددت على ضرورة معالجة الأسباب الجذرية للأزمات، بدلاً من الاكتفاء بالتعامل مع النتائج الظرفية.
ورأت أن "التخطيط لإعادة الإعمار في ظل الحرب أمر صعب للغاية، خاصة أن عمل المؤسسات والوزارات يكون مضطرباً حتى في الأوقات العادية. لذلك، لا يمكن مقارنة العمل في زمن الحرب بالسلم". وأشارت إلى وجود آراء متضاربة حول حجم الدمار؛ فبينما تقول إسرائيل إنها دمّرت الجنوب بالكامل، يؤكد لبنان أن الدمار أصاب جزءاً من الجنوب إضافة إلى الضاحية الجنوبية.
كما لفتت إلى أن الخسائر تتجاوز إعادة بناء البنية التحتية، لتشمل ضحايا الحرب من الأيتام والمتضررين الذين يحتاجون إلى رعاية وتأهيل، والأفراد غير القادرين على العمل بسبب الحرب، مما يزيد من تكلفة الخسائر الاجتماعية والاقتصادية.
ودعت منصور إلى وضع خطة منظمة لإعادة الإعمار، يتم تنفيذها إما عبر شركات موثوقة أو من خلال خصخصة بعض الخدمات بالتعاون بين الحكومة والشركات الأجنبية. وأكدت أن إعادة البناء على أسس متينة ضرورية لضمان استدامة أي جهود مستقبلية.
هل تصل المساعدات إلى المستحقين؟
قال رجل الأعمال وعضو بلدية بيروت، إيلي يحشوشي، لـ"العربي الجديد"، إن المغتربين اللبنانيين يتأثرون عاطفياً بالأوضاع الحالية، مما قد يدفعهم إلى زيادة الدعم المادي لأهاليهم في لبنان. وأوضح أنه على سبيل المثال، من كان يرسل 500 دولار شهرياً، قد يرسل 800 دولار خلال هذه الأزمة. لكن مهما ازداد حجم الدعم، فإنه لا يعوّض الخسائر الكبيرة التي تكبّدها لبنان خلال العدوان الأخير.
وأشار إلى أن الخسائر تنقسم بين خسائر يومية نتيجة تعطيل المؤسسات، وخسائر مباشرة بسبب القصف الإسرائيلي. وحتى اللحظة، يرى يحشوشي أن الوضع الاقتصادي لا يبشّر بأي تحسّن، رغم تقديم بعض الدول مساعدات للبنان، لكن هذه المساعدات غير كافية. وأضاف أن معظمها يُقدَّم للنازحين، متسائلاً: "هل هذه المساعدات تصل حقاً إلى المستحقين؟".
مخاوف من اللائحة الرمادية
وأكد يحشوشي أن المغتربين كانوا ولا يزالون يرسلون أموالاً لأهاليهم في لبنان، لكن الخوف الأكبر يتمثل في دور المصارف المراسلة التي تتعامل مع المصارف اللبنانية. وأوضح أن إدراج لبنان على اللائحة الرمادية من قبل مجموعة العمل المالي "فاتف"، يثير القلق بشأن تشديد القيود المالية التي قد تشكل حصاراً خانقاً على اللبنانيين.
كما أشار إلى أن إحدى شركات تحويل الأموال توقفت عن العمل في لبنان، وانتقلت العمليات إلى شركة أخرى، لأن تكاليف الشحن أصبحت مرتفعة جداً بسبب ارتفاع تكاليف التأمين، وأوضح أن هذه التكاليف الإضافية تُحمّل المواطن اللبناني أعباء جديدة.
في السياق، أعرب المنسق العام الوطني لـ"التحالف اللبناني للحوكمة الرشيدة"، مارون الخولي، في بيان مؤخراً، عن استنكاره إدراج لبنان على "اللائحة الرمادية"، محملاً الحكومة والمصارف "مسؤولية هذا الوضع، نتيجة سياسة التراخي وعدم الالتزام الجاد بالإصلاحات المطلوبة". ويأمل من مصرف لبنان والمصارف المحلية "تعزيز الشفافية وتطبيق المعايير المالية الدولية، الأمر الذي سيساهم في بقاء العلاقات المالية اللبنانية مع البنوك الدولية المراسلة".
من جانب ثانٍ، أصدرت مجموعة العمل المستقلة من أجل لبنان تقريراً حول التداعيات الاقتصادية والاجتماعية للحرب الإسرائيلية على لبنان في 20 أكتوبر/تشرين الأول 2024، مشيرة إلى أن الخسائر الاقتصادية قد تتجاوز 20 مليار دولار نتيجة توقف النشاط الاقتصادي في الجنوب والبقاع، (اللتان تشكلان ثلث سكان البلاد وقوة العمل فيها)، مع توقع خسائر كبيرة في دخل الأسر وتباطؤ النمو الاقتصادي.