من فوضى سعر صرف الدولار في السوق السوداء، وانهيار العملة الوطنية، إلى الشح في المواد الغذائية والبضائع المستوردة، وغلاء أسعار السلع الفاحش، مروراً بانقطاع أصناف من الأدوية، فخطر الاتجاه إلى مزيدٍ من التقنين الكهربائي، وصولاً إلى ارتفاع معدل البطالة والفقر والجوع، أصبح الشعب اللبناني محاصراً بأزمات من الصعب جداً التحرّر منها بالمدى القريب، في ظلّ انسداد الأفق، سياسياً، وهشاشة الوضع أمنياً، ووجود قرار دولي بعدم دعم لبنان مالياً قبل تأليف حكومة اختصاصيين تحمل برنامجاً اقتصادياً يلجم الهدر والفساد.
يواصل سعر صرف الدولار مساره التصاعدي، متخطياً منذ أسبوعٍ حاجز التسعة آلاف ليرة لبنانية، وسط مخاوف جدية من أن يتجاوز العشرة آلاف ليرة، ويحلق عالياً بأرقام خطيرة بتداعياتها وغير مسبوقة تاريخياً.
في الإطار، يقول أحد الصرافين لـ"العربي الجديد"، إنّ سعر صرف الدولار مرتبط في شقّه الأكبر بالعامل السياسي في لبنان، من هنا نرى كيف أنّ الأجواء الإيجابية حكومياً تنعكس انخفاضاً لسعر الصرف في السوق السوداء، بينما يرتفع من جديد عند كلّ عرقلة، أو خطاب تصعيدي أو لقاء سلبي النتائج، وهذا ما حصل في آخر كلمة لرئيس الوزراء المكلف سعد الحريري التي خرج فيها بعد لقائه الرئيس ميشال عون بأجواء سلبية ساهمت في ارتفاع سريع للدولار والقفزة التي رفعته من 8 آلاف إلى أكثر من 9 آلاف ليرة.
أجواء سلبية ساهمت في ارتفاع سريع للدولار والقفزة التي رفعته من 8 آلاف إلى أكثر من 9 آلاف ليرة
ويلفت إلى أنّ رفع أو ترشيد الدعم لم يكن له تأثير على سعر الصرف، بقدر ما يؤثر التوتر السياسي عليه، إضافة إلى نقص الدولار في السوق في ظلّ تردي الأوضاع الاقتصادية، لكن مع ذلك، هناك العديد من الناس لا يشترون اليوم الدولار على السعر المرتفع، ويفضلون التريث، لأنّ أي توافق سياسي سيخفّض الدولار كثيراً.
الأمن الغذائي في خطر
على مستوى ارتدادات قفزة العملة الأميركية على الأسواق، يحذّر نقيب مستوردي المواد الغذائية هاني بحصلي، في حديثه مع "العربي الجديد"، من سعر صرف الدولار المرتفع، والمؤشرات التي تشي بمزيد من المسار التصاعدي، ويدعو المعنيين من المسؤولين للجلوس على طاولةٍ واحدةٍ لإيجاد حلٍّ للأزمة، مشيراً إلى أنّ "البضائع لن تنقطع، لكن طبعاً مع ارتفاع الأسعار ستتدهور القدرة الشرائية عند الناس، والبضاعة على الرفّ لن تبقى كما هي".
ويبدي بحصلي تحفّظه على مسألة رفع الدعم من جانب البنك المركزي على سلع استهلاكية ومواد غذائية، لأنه يرى أن سلبياته أكثر من إيجابياته، في ظلّ التهريب المستمرّ عبر الحدود، للطحين والبنزين وغيره، "فما الفائدة إذا كانت السلع بأسعارٍ زهيدة وليس بإمكاننا الحصول عليها؟"، لافتاً إلى أفضلية استبدال دعم السلع بتأمين بطاقات تمويلية للأسر الأكثر عوزاً، وديمومة الأمن الغذائي للبنانيين.
تدابير ضد الغش والاحتكار
وفي إطار المساعي الحكومية من أجل الحد من موجات الغلاء المتفاقمة وضبط الأسواق، كلّف رئيس حكومة تصريف الأعمال في لبنان، حسان دياب، وزراء الدفاع، والداخلية والبلديات، والمالية، والاقتصاد والتجارة، بوضع خطة متكاملة في سبيل اتخاذ أقصى الإجراءات، والتشدد في تطبيق التدابير كافة التي من شأنها مكافحة ظاهرة الاحتكار والغش والتلاعب بالأسعار، لا سيما في الشق المتعلق منها بالمواد الغذائية والحاجات الأساسية للمواطنين.
يعاني اللبنانيون من ظاهرة الاحتكار، والتلاعب بالأسعار، ومنها ما يطاول السلع المدعومة
وطلب دياب، في القرار الصادر عنه أمس الأربعاء، تشديد الرقابة على جميع المعابر والمرافق الحدودية، لا سيما البرية منها، بهدف منع التهريب ومكافحته، على أن يصار إلى إنشاء غرفة عمليات مشتركة تضم ممثلي الوزارات والأجهزة الأمنية والعسكرية المعنية بالموضوع، بهدف اتخاذ جميع الإجراءات العملانية واللوجستية لوضع الخطة التي ستقرر من قبل الوزراء موضع التنفيذ الفوري. وسيتم إيداع تقرير دوري لدى رئيس الحكومة عن سير الإجراءات المتبعة.
ويعاني اللبنانيون من ظاهرة الاحتكار، والتلاعب بالأسعار، ومنها ما يطاول السلع المدعومة، التي يتم بيعها بأسعار مرتفعة أو تهريبها إلى الخارج، في حين ينشط التهريب على المعابر الشرعية وغير الشرعية وعبر الحدود، ما يكبد لبنان خسائر بملايين الدولارات، ويُترجم "شحّاً" في لبنان، ولا سيما على صعيد المحروقات والطحين.
وداهمت دوريات مشتركة تابعة لوزارتي الاقتصاد والصناعة، في الآونة الأخيرة، عدداً من المستودعات، في بيروت، وجبل لبنان، والشمال، وقضاء عاليه، وتم تسطير محاضر ضبط بحقها، بتهم الاحتكار، والتلاعب في سلع مدعومة، في حين تمّ إقفال بعض منها بالشمع الأحمر. في حين ينشط التهريب على المعابر والمرافق الحدودية، خصوصاً إلى سورية، بلا حسيبٍ أو رقيبٍ، ما يكبّد لبنان خسائر سنوية بملايين الدولارات، في وقتٍ تعيش فيه البلاد أسوأ أزمة اقتصادية ونقدية في تاريخها.
زيادة ساعات التقنين الكهربائي
يعاني لبنان في الفترة الماضية من ارتفاع ساعات التقنين الكهربائي، في ظلّ مخاوف من عودة مشهد العتمة الشاملة إلى مختلف المناطق اللبنانية. ويشدد خبراء في قطاع الطاقة على أنّ أهم الأسباب التي تؤدي إلى تكرار السيناريو نفسه، تتمثل في عدم مقاربة أزمة الكهرباء بالشكل الصحيح، وخصوصاً مع اعتماد حلول مؤقتة قصيرة المدى لا تعالج أصل المشكلة، إضافة إلى غياب المناقصات الشفافة والهدر والفساد والصفقات التي جعلت من القطاع يحوز على القسم الأكبر من الدين العام اللبناني، في ظلّ بقاء المشكلة على مرّ السنين.
وربطت أسباب عودة التقنين القاسي بالتيار الكهربائي، أخيراً، بالشحّ الكبير في الوقود، وتأخر فتح الاعتمادات في ظلّ ضبابية تأمينها من جانب مصرف لبنان، الذي يتجه إلى ترشيد الدعم، وهو ما حذّر منه أصحاب المولدات الذين لن يكون باستطاعتهم تعويض ساعات التقنين الطويلة، خصوصاً مع أزمة صرف الدولار، وارتفاع أسعار النفط عالمياً، كما أتت العاصفة الثلجية التي ضربت لبنان لتعرّض الشبكة الكهربائية إلى صدمة على خطوط التوتر العالي، ما أدى إلى انفصال كافة المجموعات الإنتاجية عن الشبكة.
مسار تصاعدي لأسعار المحروقات
تشهد أسعار المحروقات في لبنان مساراً تصاعدياً منذ أسابيع، بلغت القفزة الأكبر، الأسبوع الماضي، مسجلة ارتفاعا يزيد عن 1600 ليرة لبنانية (1.06 دولار وفق السعر الرسمي)، لصفيحتي البنزين 95 و98 أوكتان، إلى جانب ارتفاع أسعار المازوت.
وربط ممثل موزعي المحروقات في لبنان فادي أبو شقرا، بحديث لـ"العربي الجديد"، الأسباب بارتفاع سعر برميل النفط عالمياً ووصوله إلى 64 دولاراً، وفي حال استمرّ بالوتيرة نفسها سنشهد زيادة كل أسبوع، محذراً في المقابل من خطورة رفع الدعم عن المحروقات ما يرفع الأسعار عالياً بشكل لن يتمكن المواطن اللبناني من تحمّله، وستكون انعكاساته سلبية على مختلف القطاعات، منها على أسعار تعرفة المولدات الكهربائية.
شح الأدوية
يقول صاحب صيدلية في بيروت، لـ"العربي الجديد"، إنّ أزمة انقطاع الأدوية ليست على مستوى كلّ لبنان، فهناك أدوية لا نجدها في بعض الصيدليات، وأخرى يمكن العثور عليها، وهذا يعتمد على صاحب الصيدلية، حيث إن العديد من الصيادلة يعمدون إلى تخزين الأدوية لبيعها وفق أسعار أعلى.
العديد من الصيادلة يعمدون إلى تخزين الأدوية لبيعها وفق أسعار أعلى
ويشكو غالبية الصيادلة في لبنان من أسعار الأدوية المدعومة المنخفضة جداً، والخسائر التي تكبدوها مقابل عدم قدرتهم على تحمّل الغلاء المعيشي.
ويلفت صاحب الصيدلية إلى أنّ أكثر الأدوية التي فقدت مرتبطة بأمراض مزمنة، وتلك التي يشاع أنها مفيدة لعلاج فيروس كورونا، أو أجهزة تستخدم من قبل المرضى المصابين بالوباء، أبرزها أجهزة التنفس، أوكسيجين، وأدوية البنادول، مشيراً إلى أن قطاع الأدوية يعدّ أيضاً من أكبر المتأثرين بأزمة الدولار، وينعكس ذلك على عدم القدرة على شراء الأجهزة والأدوية والبضائع المستوردة.
الفقر والبطالة والإصلاح
يقول الباحث في شركة "الدولية للمعلومات" محمد شمس الدين، لـ"العربي الجديد"، إنّ أحدث إحصاءات تشير إلى وصول البطالة في لبنان إلى 35 في المائة، والفقر إلى 55 في المائة.
وتربط دراسة لـ"الدولية للمعلومات" ارتفاع البطالة بأسباب عدّة، أبرزها حالة الشلل التي يشهدها لبنان منذ 17 أكتوبر/ تشرين الأول 2019، وتداعيات تفشي فيروس كورونا في لبنان، وإقفال البلاد بشكل كامل، ما أدى إلى إغلاق نهائي لعددٍ من المؤسسات، ولا سيما السياحية منها، والمحال التجارية، وبالتالي صرف آلاف العمال، إضافة إلى من فقد وظيفته بفعل تقليص الأعمال والمشاريع.
ومن جانبه، يقول المدير التنفيذي في "الجمعية اللبنانية لتعزيز الشفافية - لا فساد" جوليان كورسون، لـ"العربي الجديد"، إنه في الشكل، كل الأزمات التي نمرّ بها تحتاج إلى سلطة سياسية وحكومة ومجلس نواب، يعملون على مدار الساعة واليوم من دون راحة، بهدف إيجاد الحلول، لكننا بدل ذلك، نعيش في ظلّ حكومة تصريف أعمال منذ أكثر من سّتة أشهر، نادراً ما تجتمع.
أما في المضمون، فيرى كورسون أنّ أكثر أزمة ضاغطة على لبنان هي النقد المالي، ولا يمكن إجراء أي إصلاح نقدي مالي وخطة اقتصادية من دون حوكمة وشفافية وأطر واضحة لمكافحة الفساد.
التدقيق الجنائي
يدخل ملف التدقيق الجنائي بحسابات البنك المركزي والوزارات والمصالح المستقلة والصناديق والمؤسسات العامة، في البازار السياسي والكباش بين القوى المختلفة ومصرف لبنان المتذرع بالسرية المصرفية، ما أدى إلى المماطلة والعرقلة، فانسحبت شركة التدقيق "الفاريس اند مارسال" قبل عودة التواصل معها من جديد.
يشير كورسون إلى أنّ التدقيق الجنائي عند إخراجه من إطار السياسة المحلية، فهو مسار ضروري جداً، علماً أنّ المسؤولية مشتركة في ما وصلنا إليه بين مصرف لبنان من جهة، والحكومة، وغياب الرقابة البرلمانية.
الحلول لهذه الأزمات موجودة برأي كورسون، رغم "أننا لا نملك عصا سحرية"، البداية يجب أن تكون بتشكيل حكومة جديدة، لتسيير أمور البلاد والناس، مكافحة الهدر والفساد، استقلالية القضاء، وغيرها، إلى جانب فرصة التغيير وتحسين الأداء سواء بالانتخابات الفرعية أولاً، أو كذلك النيابية والبلدية، وهذه الاستحقاقات دائماً ما تكون المحطّة الأهم للمحاسبة والمساءلة وتغيير الطبقة السياسية.