استمع إلى الملخص
- تواجه سورية أزمات اقتصادية حادة تشمل نقص السكن وارتفاع تكاليف المعيشة، مما يعقد حياة النازحين العائدين ويزيد من صعوبة العثور على فرص عمل أو سكن ملائم، مع تدهور الخدمات العامة ونقص الأغذية الأساسية.
- انخفاض التمويل الدولي يفاقم الأوضاع الإنسانية في سورية، مما يهدد بحرمان الملايين من الرعاية الصحية والتعليم، ويستدعي استراتيجيات شاملة لتعزيز الاقتصاد وتحقيق انتقال سياسي يضمن عودة كريمة وآمنة للنازحين.
أي مصير هذا الذي كُتب على السوريين المعذبين؟ دوامة لا تنتهي من التشرد والنزوح والمعاناة، فما أن تُغلق مراكز الإيواء حتى تفتح من جديد، وما أن تبدأ بعض المناطق بمشاريع التعافي المبكر وسبل العيش، حتى تعود أدراجها إلى الإغاثة الإنسانية والمساعدات الطارئة. كأنّ الزمن يرفض المضي قدماً ليمنح هذا الشعب المكلوم فسحة حياة وبصيصاً من الأمل. عاد أكثر من 200 ألف نازح سوري من لبنان إلى سورية منذ اندلاع العدوان الإسرائيلي.
هُجّروا من سورية بسبب الحرب وممارسات النظام، واليوم يجدون أنفسهم مهددين مجدداً بسبب العدوان الإسرائيلي والممارسات العنصرية ضدهم. عاد بعضهم إلى مدنهم، في حين اختار آخرون قطع مسافات طويلة إلى ريف حلب في شمال غرب سورية أو إلى منطقة الجزيرة في شمال شرق البلاد، ليبدأوا رحلة نزوح أخرى.
عادوا إلى بلادهم التي غابت عنها سلطة الدولة ومؤسساتها، إلا من المؤسسات الأمنية التي تعكف على اعتقال الشبان السوريين وزجهم في السجون وتلفيق التهم الجاهزة وسوقهم إلى الخدمة العسكرية. منذ اندلاع الثورة في عام 2011، لا يرى النظام سوى نفسه رافعاً شعار "الأسد أو نحرق البلد"، واضعاً النظارة الأمنية للقمع والاعتقال والقتل والتدمير لكل من يعارضه. قصة نزوح السوريين لا تنتهي، ومعاناتهم المستمرة تتشابك بين التهديد الأمني وسوء الأوضاع الاقتصادية والاستغلال والابتزاز، قصص لم تكتب خاتمتها بعد!
غياب الدولة سبب الواقع المزري
وسط الظروف المأساوية التي تعيشها سورية وفي ظل عودة النازحين، ستعاني البلاد من أزمات اقتصادية مركبة، عرفنا بدايتها ولا نعرف نهايتها، بدءا من أزمة السكن، حيث تسببت سياسات النظام وروسيا وإيران المنهجية في تدمير البلدات والمدن وتهجير السكان قسراً، فلا تكاد تجد بلدة لم تتعرض منازلها للتخريب والتدمير. تحتاج سورية إلى "خطة مارشال" لإعادة إعمار ما تدمر، تضمن إعادة تأهيل وترميم كل ما تضرر من مرافق حيوية ومنازل قبل عودة النازحين واللاجئين والمبعدين.
فمن شأن أي عودة غير منظمة أن تؤدي إلى مشاكل متعددة، مثل عدم وجود سكن ملائم، أو العيش مع الأقارب في ظروف غير مناسبة، أو استخدام أماكن غير ملائمة للسكن مثل المدارس والملاجئ والأراضي الزراعية، أو النزوح مجدداً إلى شمال غرب وشرق سورية بحثاً عن مكان ملائم للمعيشة. كما أن العودة المفاجئة لعشرات الآلاف ستؤدي إلى خلق طلب كبير على الإيجار، وهو ما يساهم في رفع الأسعار نتيجة الاكتظاظ السكاني والنقص الحاصل في قطاع السكن.
وفي ما يتعلق بالظروف المعيشية، من المعروف أن سورية تعاني من ركود اقتصادي منذ أكثر من عقد، في ظل توقف عجلة المشاريع وإيرادات الموازنة المالية وانتكاس القطاعات الإنتاجية وشلل التوظيف. أحد أسباب نزوح السوريين كان البحث عن فرص عمل، فيكف سيتمكن النازحون من العثور على وظائف لدى عودتهم، وكيف سيعيشون وسط هذه الظروف الاقتصادية المتردية؟
منذ بداية الثورة في العام 2011، لم تتوقف أسعار السلع والخدمات عن الارتفاع، وتآكلت القدرة الشرائية للأسر وخسرت الليرة السورية معظم قيمتها، حتى بلغ سعر الصرف أمام الدولار 15 ألف ليرة. انتشرت استراتيجيات التأقلم مع التضخم الحاد وصعوبة الحصول على السلع الأساسية بشكل يومي. بلغ متوسط تكاليف المعيشة في بداية شهر سبتمبر/ أيلول الماضي لأسرة سورية مكونة من خمسة أفراد أكثر من 13 مليون ليرة سورية، بينما وصل الحد الأدنى إلى نحو 8.1 ملايين ليرة، وفق مؤشر صحيفة "قاسيون" المحلية لتكاليف المعيشة.
وبحسب المؤشر أيضاً، فإن الحد الأدنى للأجور، البالغ 278.9 ألف ليرة سورية، كان في الربع الأول من العام الحالي 2024 غير قادر على تغطية سوى 2.2% من وسطي تكاليف المعيشة، وبات خلال الربع الثاني من العام نفسه غير قادر على تغطية سوى 2.1% من وسطي تكاليف المعيشة للأسرة.
تعاني البلاد أيضاً من نقص حاد في الأغذية الأساسية مثل الخبز والمحروقات، وانتشار السوق السوداء. قد تؤدي عودة مئات الآلاف من النازحين إلى سورية إلى زيادة الأسعار وتفاقم الأوضاع المعيشية. يُضاف إلى ذلك تدهور الخدمات الأساسية مثل الكهرباء والمياه والرعاية الصحية والتعليم، التي تعمل بالحد الأدنى وتعاني من عقبات ومشاكل عديدة.
انخفاض التمويل الدولي يقلق السوريين
من جانب آخر، سيزيد من سوء الأوضاع الإنسانية في سورية انخفاض التمويل الدولي الذي بدت ملامحه منذ بداية العام، في ظل دخول أزمات وصراعات جديدة على رادار المانحين الدوليين، من السودان وغزة ولبنان. نقص التمويل الدولي يضع المزيد من الضغوط على المنظمات الإنسانية التي تعد طوق نجاة للكثيرين. حتى شهر أكتوبر/ تشرين الأول، لم يتم استلام سوى 26% فقط من الأموال المطلوبة لتمويل الاحتياجات الإنسانية لسورية، فمن أصل 4.07 مليارات دولار، جُمع ما يقرب من مليار دولار فقط لتلبية الاحتياجات الإنسانية الفورية لـ10.8 ملايين شخص من المستهدفين.
ونتيجة لنقص التمويل، اضطرت العديد من المنظمات المحلية في عموم سورية إلى إيقاف العديد من برامجها الخدمية، وتسريح العشرات من الموظفين. كما تم تقليص عدد العائلات السورية في لبنان التي تتلقى مساعدات نقدية إلى نحو الثلث في عام 2024. وأعلن برنامج الأغذية العالمي في الأردن تقليص مساعداته الغذائية الشهرية لـ465 ألف لاجئ في منتصف يوليو/ تموز 2023، واستثناء حوالي 50 ألف شخص آخرين من المساعدة الشهرية، بسبب نقص التمويل.
يهدد نقص التمويل بهذا الشكل بحرمان حوالي 2.3 مليون امرأة في سن الإنجاب، بما في ذلك 500 ألف امرأة حامل ومرضعة، من الوصول إلى الرعاية الصحية الإنجابية والأمومة الحيوية. كما سيُحرم نحو 2.5 مليون طفل خارج المدرسة من فرصة العودة إليها، وهو ما يهدد مستقبل جيل كامل ويحرم الأطفال من حقهم الأساسي في التعليم.
حتى قبل دخول النازحين السوريين واللبنانيين إلى سورية، كانت البلاد تعاني من تحديات مركبة في ظل الانسداد السياسي وتفاقم الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية للسوريين داخل سورية وخارجها على حد سواء. واليوم، تواجه تحديات غير مسبوقة، تفاقمت مع عودة النازحين من لبنان في ظل نقص الموارد وغياب الحلول السياسية وعدم توفر رغبة صريحة في تحقيق انتقال سياسي ينشده السوريون وثاروا لأجله منذ 2011.
لا يمكن للبلاد أن تتعافى من هذه الأزمات المركبة دون إعادة تفعيل القرارات الدولية ذات الشأن بالملف السوري، ووضع استراتيجيات شاملة تضمن تعزيز الاقتصاد المحلي، وتحسين الخدمات الأساسية، وتوفير بيئة آمنة تتيح للنازحين العودة والعيش بكرامة.
ورغم المشهد الدامس الذي يحيط بالمنطقة، تقف سورية اليوم في لحظة حاسمة، لا بدّ أن يدرك المجتمع الدولي أهميتها، فحل أزمات الفقر واللجوء والنزوح والبطالة وانتشار المخدرات في سورية لا يكمن فقط في إقرار خطط الاستجابة الإنسانية والطارئة والتعافي المبكر وتمويلها وحسب، ولا حتى في مناقشة مشاكل اللاجئين في تركيا ولبنان والأردن ومصر والعراق، بل يبدأ من بناء السلام وحل جذور المشكلة التي تسببت في كل تلك الأزمات وأرهقت الإقليم والعالم. على المجتمع الدولي أن يبدأ بمحاسبة النظام على جرائمه وانتهاكاته، ووضع آليات جادة للانتقال السياسي.
آن الأوان لتفكيك المخيمات وعودة جميع السوريين عودة كريمة إلى بلادهم بدون تصريف 100 دولار على الحدود، وبناء بلد مستقر ومزدهر يعيدون فيها سورية إلى مكانتها الطبيعية، حيث يساهم الجميع في بناء مستقبل أفضل، يبنون ما دمرته الحرب، أو بالأحرى ما دمره الأسد.