العقوبات الاقتصادية وعض الأصابع

16 مارس 2022
متسوقون في مدينة بلغراد عاصمة الصرب حالياً (getty)
+ الخط -

سافرت إلى يوغوسلافيا (السابقة) مع أهلي وقت ابتعاث والدي في مهمة رسمية خلال الفترة بين 1988 و1990، التي شهدت التحولات الكبرى في أوروبا الشرقية في أعقاب سقوط حائط برلين، ثم سقوط حكومات الدول الشرقية واحدة بعد الأخرى كقطع الدومينو، كما أوضحت الصورة على غلاف مجلة "ذا إيكونوميست" وقتها، فكانت تجربة مثيرة في بلاد لم يعرف أغلب الناس عنها الكثير قبل وصول الإنترنت إلى مصر.

سبقت يوغوسلافيا أغلب دول أوروبا الشرقية في الخروج من عباءة الاتحاد السوفييتي خلال سنوات الحرب الباردة، وتحديداً بعد تأسيسها مع الهند ومصر حركة عدم الانحياز عام 1961 (تيتو – نهرو – ناصر)، فبدأت القوى الناعمة الغربية تتسلل إليها الواحدة بعد الأخرى.

في فترة شهدت انفتاحاً للبلاد على العالم الغربي مع ترك الباب موارباً أمام الشيوعية، فظهرت الأفلام الأميركية ثم الأغنيات الغربية التي تدور في المطاعم والمحلات، كأغنية لامبادا لفريق كاوما (الفرنسي البرزيلي، وهذا طبعاً بخلاف شركة أديداس الألمانية، والسيارة "يوجو" بموتور ألماني، والبنطال الجينز "ليفيز" الأميركي، فكان الشباب يدخرون جزءاً لا يستهان به من مصروفهم لعدة أشهر لشراء البنطال ليفيز 501 - كان هذا اسمه كاملاً).

أكثر من 300 مليار دولار، تمثل نصف احتياطيات النقد الأجنبي الروسي، أصبحت مجمدة لدى الدول الغربية، إلّا أنّ ظروف الحرب وحظر أميركا لاستيراد النفط الروسي تسببا في مكاسب جمة للروس

لكنّ "الفتح الأكبر" كان مع دخول عملاق صناعة الوجبات السريعة ماكدونالدز إلى البلاد. ففي شهر مارس/ آذار من عام 1988، نقلت وكالة "أسوشييتدبرس" الأميركية "خبراً عاجلاً" قالت فيه: "امتدت الأقواس الذهبية إلى العالم الشيوعي لأول مرة، إذ افتتحت ماكدونالدز اليوم مطعماً للوجبات السريعة في العاصمة اليوغوسلافية".

وقتها تم استدعاء الشرطة لتنظيم دخول الآلاف الذين وقفوا لساعات في طوابير، معتقدين أنّهم بذلك يدخلون التاريخ من أوسع أبوابه، بينما كانت لبنة جديدة توضع في ما عرف وقتها بـ"دبلوماسية الطعام".
لشهور بعدها، لم يتوقف الإقبال على أول فروع الشركة الذي تم اختيار موقعه بعناية في أشهر ميادين العاصمة التي أريد لها أن تصبح مثالاً يحتذي به الآخرون في المعسكر الشرقي.

ظل المطعم الغربي الوحيد في البلاد يستقبل الآلاف من المواطنين محدودي الدخل، رغم ارتفاع أسعاره بالنسبة لهم، حتى أنّ مشهد جلوس أربعة من الشباب حول إحدى الطاولات داخل المطعم الجديد، وأمامهم طبق صغير من البطاطس المقلية، كان معتاداً هناك، لأنّ الكثيرين كانوا يستمتعون بمجرد الوجود في المطعم، وإن لم تسمح دخولهم بالأكل.

موقف
التحديثات الحية

ومع انهيار سور برلين وسقوط الحكومات، توالى افتتاح فروع ماكدونالدز في الدول الشرقية، ليتم افتتاح أول الفروع في روسيا، التي كانت وقتها ضمن جمهوريات الاتحاد السوفييتي، عام 1990، ثم ليصل عدد الفروع بعد ذلك في روسيا وحدها إلى 850 فرعاً، أعلنت جميعها إيقاف أعمالها بعد الغزو الروسي لأوكرانيا، وتبعتها ستاربكس وكوكاكولا وبيبسي وبيتزا هت، في محاولة لعزل روسيا عن النظام العالمي، وحرمانها من كل العلامات التجارية التي "نالت شرف استقبالها" بعد الـ"بيريسترويكا" و"الغلاسنوست".
إيقاف عمليات ماكدونالدز في روسيا يعني تعطيل سلاسل التوريد والتصنيع المحلية، وفقدان أكثر من ستين ألف روسي لوظائفهم، وفك الارتباطات الوثيقة مع البنوك والمستثمرين الروس، وغيرها من العلاقات التي سمحت لماكدونالدز بالازدهار طوال هذه السنوات.
لكن، في الوقت نفسه، استثمرت ماكدونالدز ملايين الدولارات في بناء المطاعم في روسيا، وكانت السوق الروسية من أسرع أسواق الشركة نمواً، إذ حققت فيها خلال العام الماضي 9% من إيراداتها على مستوى العالم. الأمر نفسه يسري على الشركات العالمية الأخرى، وعلى سبيل المثال، حصلت بيبسي على أكثر من ثلاثة مليارات دولار من متاجرها هناك، التي "تمتلك" فيها أكثر من عشرين مصنعاً.

على الأرجح، ستجد روسيا مشترين جدداً لما يقرب من 5 ملايين برميل يومياً كانت تبيعها للدول المشاركة في العقوبات الاقتصادية المفروضة عليها

هذا الوضع لا ينطبق على متاجر الأكلات السريعة أو مصانع المشروبات والقهوة فقط، وإنما يمتد ليشمل تقريباً كلّ بند من بنود العقوبات الاقتصادية التي فرضتها الدول الغربية على موسكو، بدءاً من فروع البنوك الأميركية والفرنسية والألمانية، التي لن يكون خروجها من السوق الروسية هيناً، وستتحمل ملايين، وربما مليارات الدولارات من الخسائر قبل خروجها، وصولاً إلى شركات النفط التي ستوقف عملياتها هناك، فتخسر أصولها، وتفقد ملايين البراميل التي كان يمكن لها أن تبيعها وتحقق منها أرباحاً طائلة عند مستويات الأسعار السائدة حالياً.
حظرت الدول الغربية نظام سويفت على العديد من البنوك الروسية، بما فيها البنك المركزي الروسي، إلّا أنّها سمحت لبنوكٍ روسيةٍ أخرى باستخدامه حتى تتمكن من الحصول على النفط والغاز الروسيين، وهو ما يعني من الناحية العملية إلغاء أي تأثير للقرار على البنوك الروسية كلها.
قالت الولايات المتحدة إنّ أكثر من ثلاثمائة مليار دولار، تمثل تقريباً نصف احتياطيات النقد الأجنبي الروسي، أصبحت مجمدة لدى الدول الغربية، إلّا أنّ ظروف الحرب وحظر أميركا لاستيراد النفط الروسي تسببا في مكاسب جمة للروس.

فعلى الأرجح، ستجد روسيا مشترين جدداً لما يقرب من 5 ملايين برميل يومياً كانت تبيعها للدول المشاركة في العقوبات الاقتصادية المفروضة عليها، مع العلم أنّ أغلب تلك الدول لم توقف استيراد النفط الروسي حتى الآن، وستتمكن روسيا من بيع ما يقرب من سبعة ملايين وخمسمائة ألف برميل يومياً بفارق سعر في البرميل يقترب من 30 دولاراً زيادة في سعر البرميل منذ بداية الغزو، وبإجمالي إضافة إلى إيرادات روسيا تقترب من 60 مليار دولار حتى نهاية العام الحالي.

هذه التقديرات تفترض بقاء السعر عند المستويات الحالية، في حدود 110 دولارات للبرميل، بينما توقعت مصادر رسمية أميركية وروسية وصوله إلى 300 دولار إذا طال أمد الحرب في أوكرانيا.
هذا في قطاع النفط وحده، لكن هناك أيضاً الغاز، والمعادن والحبوب، وكلها متاحة بوفرة في السوق الروسية، بينما وصلت أسعارها إلى مستويات قياسية خلال فترة وجيزة.
المسألة إذاً تبدو عملية عض أصابع، وليّ ذراع الروس بالعقوبات الاقتصادية وحدها ليس محسوماً، وتشير التوقعات إلى أن العقوبات الاقتصادية وارتفاع أسعار السلع والمعادن سيمتدان لفترة، قبل أن نسمع صراخ أحد الطرفين.

المساهمون