هنا، في أزقة بغداد وشوارعها، تلمح البؤس في عيون المارة. المحال مغلقة على رزق أصحابها. رجال ونساء يتأففون من ارتفاع أسعار المواد الغذائية. شبان وشابات يهيمون بلا عمل. وخلف كل باب قصة، عن عمال فقدوا وظائفهم بسبب إغلاق كورونا، عن رواتب مقتطعة لا تؤمن كفاف معيشة الأسرة، عن دولار يحلق أمام الدينار فيقضم القدرة الشرائية، عن إصابات كورونا داخل بلد بنظام صحي مهترئ، عن فقر يتزايد بصمت ليطاول أكثر من ثلث السكان.
وفي أروقة المراكز السلطوية، الكثير من ضجيج. ثروة نفطية، بصادرات وصلت إلى أكثر من مليار برميل في العام الماضي، يبددها الفساد وسوء الإدارة، فيحرم من عائداتها ملايين العراقيين. خلافات تمنع إقرار موازنة عام دخل في شهره الثالث بلا إقرار خطة للإنفاق وتنظيم الإيرادات رغم الأزمة الاقتصادية. وأرقام رسمية تشير إلى تفاقم الأزمة المعيشية ولا من يستجيب للحد من تمددها.
فقد فاقمت عمليات الإغلاق الجديدة في العراق التي فرضتها السلطات الحكومية لمواجهة الموجة الثانية من جائحة كورونا، مشكلات المواطنين. معدلات الإصابة أصبحت قياسية، قاربت الخمسة آلاف حالة في اليوم الواحد.
في المقابل، ترتفع نسب الفقر مجدداً، بالتزامن مع صعود أسعار المواد الغذائية في الأسواق والذي أخفقت الحكومة في السيطرة عليه، رغم تعهداتها عقب قرار تخفيض قيمة الدينار العراقي أمام الدولار، الذي اتخذته نهاية العام الماضي.
إغلاق بلا دعم
أكد آخر تقرير رصد لوزارة التخطيط العراقية نهاية العام الماضي، تصاعد نسبة الفقر في البلاد. وقال وزير التخطيط العراقي، خالد بتال النجم، إن تداعيات فيروس كورونا، تسببت بإضافة 1.4 مليون عراقي جديد إلى إجمالي أعداد الفقراء.
وأضاف أن "عدد الفقراء بموجب هذا الارتفاع، بلغ 11 مليونا و400 ألف فرد، بعد أن كان قبل الأزمة حوالي 10 ملايين فرد". وأوضح أن "نسبة الفقر ارتفعت إلى 31.7 في المائة، والتي كانت 20 في المائة في عام 2018".
فيما أكد برلمانيون أن النسبة تعدت اليوم الـ40 في المائة. وأجرت السلطات العراقية منتصف الشهر الحالي تعديلات جديدة على قرارات خلية الازمة الصحية أعادت بموجبها الإغلاق العام وفرض حظر التجوال أيام الجمعة والسبت والأحد من كل أسبوع، وحظر التجوال المسائي.
وفي حديث مع "العربي الجديد" اشتكى المواطن مروان محمد من ضيق المعيشة قائلاً إن "كل أزمة يمر بها العراق سواء كانت سياسية أو اقتصادية أو أمنية تنعكس آثارها سريعاً ليصبح المواطن العراقي المتضرر الأكبر".
ونوّه إلى أن الحكومة العراقية "في كل قراراتها لا تراعي الأوضاع المعيشية التي نعيشها، من دون وجود أي دعم يذكر من قبلها يعين الأسر في هذه المرحلة".
وأضاف ان الحكومة تفرض حظر التجوال على المواطنين بسبب كورونا وتطالبهم في الوقت ذاته بدفع فواتير الكهرباء والماء التي تصل إلى أكثر من 200 دولار شهرياً، فضلا عن تأمين قيمة إيجار السكن وتوفير لقمة العيش".
ودعا الحكومة العراقية إلى إعفاء المواطنين من دفع رسوم الماء والكهرباء وتقديم مساعدات نقدية للعائلات الفقيرة خاصة التي تعتمد على الأجر اليومي في تأمين قوتها. ومن جهته شرح المواطن أيوب العزاوي أن " القرار الأخير بفرض حظر التجوال من جديد يتزامن مع عدم توافر فرص عمل، ويأتي ذلك في ظل ارتفاع سعر صرف الدولار الذي أحدث غلاء فاحشاً في أسعار السلع والبضائع".
وأوضح في حديثه مع "العربي الجديد" إن "قرارات الإغلاق تسببت في خسارة معظم المواطنين نصف رواتبهم، بل وأكثر من ذلك فمنهم من خسر وظيفته نهائيا كالعاملين في المطاعم والأسواق والمتنزهات التي أمر بإغلاقها أخيراً". من جانبه، قال عضو مفوضية حقوق الإنسان علي البياتي في تصريح صحافي إن" 14 مليون عراقي غير قادرين على شراء الكمامات، نتيجة تدهور أوضاعهم المعيشية".
وشدد على "ضرورة توزيع منح مالية سريعة لتجنب الضغوطات المالية التي ستنتهي بمشاكل اجتماعية ونفسية".
الأزمة توحّد المناطق
وفي إقليم كردستان شمالا لم يكن الوضع المعيشي أفضل حالا من مناطق وسط العراق وجنوبه. إذ يشكو السكان من فقدان القدرة على توفير لقمة العيش، وذلك بسبب تأخر رواتب الموظفين لأكثر من 5 أشهر، "إلى جانب أسباب أخرى باتت بالنسبة إلى الكثير من سكان المنطقة سبباً في مضاعفة اليأس والضغوط وصعوبة الحياة"، وفق أحمد حمه رشيد، عضو اللجنة المالية في البرلمان العراقي.
وأضاف قائلا خلال حديثه مع "العربي الجديد" إن "نسبة الفقر في العراق قد اقتربت فعليا من 40 في المائة وخصوصاً في المحافظات الجنوبية من العراق بسبب الإجراءات الوقائية للحد من جائحة كورونا وارتفاع الأسعار وهبوط سعر الدينار، بالإضافة إلى غياب فرص العمل في البلاد".
وأشار رشيد إلى أن" نسبة الفقر في العراق بدأت تتزايد يوماً بعد يوم مسببة مشكلات اجتماعية وأخرى صحية"، لافتاً إلى أن " الظروف المعيشية الصعبة أدت بشكل مباشر إلى تزايد حالات الانتحار نتيجة وصول المواطن العراقي إلى حالة من اليأس في توفير لقمة عيش كريمة له ولأفراد عائلته".
بدوره، قال النائب السابق في البرلمان العراقي كامل الغريري في حديث مع "العربي الجديد" إن "ما يعانيه المواطن العراقي اليوم من أزمات وتدهور ظروفه المعيشية تتحملها الحكومة العراقية، بسبب قراراتها وسياستها الخاطئة التي انعكست سلباً وبشكل مباشر على المواطنين". وأضاف أن "الحياة في العراق باتت أكثر صعوبة عن السابق حيث تتطلب أموالا ضعف ما كان ينفق شهرياً، في وقت تعاني فيه أغلب الأسر العراقية من ضعف السيولة النقدية". وحذر الغريري "الحكومة العراقية من انفجار شعبي ينذر بثورة جياع شعبيه تعُم مختلف مناطق العراق".
السلطة في مكان آخر
وتأتي كل هذه المشكلات، في ظل عدم إقرار السلطات آليات للسيطرة على الأزمة المعيشية المتمادية. إذ لا تزال الثروة النفطية مادة تحاصص وإخفاق إداري وتنظيمي، رغم تصدير مليار و96 مليوناً و345 ألف برميل في العام 2020، وفق بيانات وزارة النفط العراقية. لا بل تسببت الخلافات في تأجيل أهم صك مالي في البلاد، أي الموازنة التي كان يجب إقرارها في ديسمبر/ كانون الأول الماضي.
حيث أكد نواب في البرلمان العراقي لـ"العربي الجديد" عن اتفاق ضمني بين عدد من القوى والكتل النافذة في البرلمان، على عدم تمرير موازنة العام 2021، قبل حل الخلافات حول حصة إقليم كردستان من الموازنة الاتحادية للدولة.