لم يكن أمام محمد مزهر الذي فقد عمله سوى الانصياع لنصيحة شقيقه الذي يكبره بعامين ويشاركه في افتراش الرصيف لبيع معدات وحاجيات رخيصة الثمن وترغبها الأسر، لا سيما أن الرصيف يقع على قارعة طريق حيوي في منطقة الباب المعظم وسط العاصمة العراقية بغداد.
ورغم أنه كان يعتبر البيع على الأرصفة عملاً غير لائق لكنه منذ أكثر من شهرين يواظب على تنسيق بضاعته من المعقمات والمطهرات التي يرصفها بشكل جاذب فوق عارضة خشبية، بل أصبح ينادي على بضاعته بصوت عال ليرغب الناس بشرائها.
وبالإضافة إلى ما خلفته تداعيات فيروس كورونا منذ بدء انتشاره بالعراق في مارس/آذار 2020، فقد أفقدت في العراق أكثر من 2.5 مليون شخص وظائفهم بالقطاع الخاص، حسب تقديرات خبراء اقتصاد، وهي عبارة عن مهن ووظائف الأجور اليومية التي أوقفها حظر التجوال وإجراءات مواجهة الجائحة الصحية.
وشهدت الأسواق ارتفاعاً في أسعار السلع على أثر الخطة التي وضعتها الحكومة بخفض سعر الدينار مقابل الدولار سعياً لتوفير مرتبات الموظفين بالعملة المحلية.
وفي حديثه لـ"العربي الجديد" يقول مزهر وهو في العقد الرابع من العمر إنه منذ سبعة أشهر فقد وظيفته في فرع لشركة أجنبية ببغداد، التي كانت توفر دخلاً جيداً له، مضيفاً: "حاولت جاهدا إيجاد عمل مناسب لكن يبدو أن عددا كبيرا كان مصيرهم مثل مصيري وفقدوا أعمالهم ما جعل البطالة تتسع في البلد".
ولا يعتقد مزهر أنه سيستمر في مهنته الحالية التي يراها "مؤقتة" لحين انقضاء الأزمة التي تمر بها بلاده أو الحصول على عمل آخر إذ يجد نفسه مضطرا للوقوف على الرصيف، قائلاً: "طيلة الأشهر الماضية أنفقت أكثر من نصف المال الذي ادخرته منذ سنوات ووجدت أنه ليس من المناسب أن أنفق المزيد دون أن أعمل، عملي الحالي يساعدني في سداد بعض نفقات أسرتي وأحاول إيجاد عمل مناسب ولكن هذا يعتمد بشكل أساسي على تحسن الوضع الاقتصادي العام في العراق" وفق قوله.
وشهدت أسعار السلع ارتفاعا خلال الشهر الماضي، بعد أن وصل سعر صرف العملة المحلية إلى مستوى قياسي متدن، 1460 دينارا مقابل الدولار في قفزة قياسية بعد أن كان يراوح بين 1200 و1221 دينارا طوال السنوات الماضية.
وبررت وزارة المالية العراقية قرار خفض قيمة الدينار بمواجهة الأزمة المالية التي تتعرض لها البلاد، إثر تراجع أسعار بيع النفط في الأسواق العالمية، بسبب تداعيات فيروس كورونا.
والعراق، أحد البلدان ذات الاقتصاد الريعي، حيث يعتمد على إيرادات بيع النفط لتمويل ما يصل إلى 95 في المائة من نفقات الدولة.
المواطن العراقي وفقاً للخبير بالشأن العراقي، عمر السامرائي، الذي تحدث لـ"العربي الجديد" يمر بـ"مرحلة حرجة"، نتيجة ما يصفها بـ"الأزمات المتراكمة التي يشهدها البلد منذ سنوات طويلة".
وبعيدا عن أسباب هذه الأزمات الاقتصادية بحسب السامرائي التي يحيلها إلى "مخلفات المحاصصة السياسية" التي طغت على طبيعة الحكم في البلاد بعد 2003، وفق قوله، فإن "البسطات" (مكان لبيع السلع على الأرصفة) التي لجأ إليها الباحثون عن تحسين دخولهم والعاطلون من العمل اعتبره السامرائي "أمراً متوقعاً"، لكنه يرى أن ذلك الفعل "ستكون له آثار سلبية على الشخص وإن كانت ستوفر مردودا ماديا جيدا، هذا إذا فرضنا أنها ستغطي تكاليف معيشة من اتخذها خيارا بديلا".
وأضاف: "هنا يوجد عدد كبير من المواطنين الذين يملكون وظائف جيدة وهم معتادون على وضع اجتماعي معين، وحين يضطرون إلى ممارسة مهنة أقل مستوى من وضعهم الاجتماعي سوف يكونون تحت ضغوط نفسية هائلة وإن كانوا يبدون سعداء في عملهم".
وتابع: "مبدئياً فإن أي عمل يمارسه الإنسان يقضي فيه عدة ساعات يوميا دون أن يكون له مردود مادي جيد سيجلب آثارا سيئة ولن يداوم على ممارسة المهنة طويلا".
ما تحدث عنه السامرائي يؤكده كثيرون يزاولون عملا جديدا على الأرصفة، يقولون إنهم "مضطرون" للاستمرار في هذا العمل من أجل كسب قوت أسرهم وسداد ما عليهم من التزامات.
خضير جزاع (47 عاما) يقول لـ"العربي الجديد" إنه خسر عملين في آن واحد، حيث كان يعمل مرشدا في شركة سياحية تسيّر رحلات ترفيهية إلى مناطق شمالي البلاد، ومصوراً للأعراس، لكن "الظروف كانت أقوى مني" وفق قوله، حيث تم منع إقامة الأعراس في القاعات الخاصة وتوقفت الرحلات السياحية.
وأضاف: "شاركت صديقي في إنشاء بسطة لبيع الفواكه والخضروات"، مشيرا إلى أن صديقه ويدعى حسين، موظف في وزارة العلوم والتكنولوجيا، لكنه اضطر إلى البحث عن عمل يزيد من دخله.
وأشار جزاع إلى أنه يتناوب على العمل في بسطتهما التي يطلق عليها "المنقذة"، قائلاً: "لقد أنقذنا هذا العمل أنا وصديقي. علينا التزامات مالية يجب أن نسددها. لم نكن نتوقع أن يصير الحال إلى ما هو عليه اليوم".
ونظراً لكونه اعتاد على التواصل مع الناس بحسب طبيعة عمله حيث يتوجب عليه أن يتحدث ويتعاون مع عشرات الأشخاص يومياً في مهنة السياحة والتصوير، يقول جزاع إنه استطاع سريعا التأقلم مع عمله على الرصيف، لكن رغم ذلك يعتبره لا يتناسب مع شخصيته وإمكاناته لكونه يحمل شهادة جامعية ويتحدث لغتين أجنبيتين إلى جانب العربية. ويضيف: "العمل على الرصيف مهنة لمن لم يتحصل على تعليم، وبحسب ما هو معروف عمل وضيع، في نظر البعض".
ونظرا لذلك يقول جزاع إن صديقه حسين الذي يشاركه في العمل على الرصيف لم يتمكن من الاندماج في مهنته الجديدة، مبيناً "صديقي تأثر نفسيا بشكل كبير، وتنتابه حالات كآبة فهو مضطر للعمل في مهنة أدنى بكثير من وضعه الاجتماعي".