سجلت أوروبا الشهر الماضي أسوأ موجة جفاف مصحوبة بارتفاع في درجات الحرارة منذ 500 سنة. الجفاف الحالي هو الموجة الثانية خلال 4 سنوات. وأدى الطقس الجاف الحار في سنة 2018 إلى انخفاض غلة المحاصيل الرئيسية في وسط وشمال أوروبا بنسبة تصل إلى 50%، لكنّ الظروف الرطبة في جنوب أوروبا عوضت نقص المحاصيل.
على العكس تماماً في 2022، تتعرض أوروبا من أطرافها الأربعة لموجة حر وجفاف استثنائي ومتزامن، أدى إلى جفاف الأنهار وانكشاف القاع عن آثار هيدرولوجية، تسمى صخور الجوع، نحتت في موجة جفاف مماثلة قبل خمسة قرون.
نهر بو، هو أطول أنهار إيطاليا، يعيش في حوضه حوالي ثلث سكان إيطاليا، 17 مليون نسمة، وأكثر من نصف الماشية في البلاد. وهو ممر حيوي للنقل عبر التاريخ، وشريان الحياة في شمال البلاد، وهو سر تطورها الزراعي والصناعي ومصدر الثروة هناك. لكنّ ملك الأنهار بدأ يجف الآن بسبب فترات الجفاف الشديد والطويلة.
يقول الخبراء إنّه ما يقرب من ثلاثة أمتار تحت مقياس ارتفاع الصفر. وانكشفت سفن غارقة منذ الحرب الأولى وآثار قرى كانت تحت عمق 12 متراً ولم تظهر منذ 100 عام.
أوروبا تعاني الجفاف
أعلنت الحكومة الإيطالية حالة الطوارئ في خمس مناطق في أوائل يوليو بسبب الجفاف الذي وصف بأنه الأسوأ منذ 70 عامًا.
وهدد الجفاف إمدادات زيت الزيتون والأرز الريزوتو الشهير. ومن المتوقع أن تزيد الأسعار بنسبة تصل إلى 50% بسبب تراجع الإنتاج. تعاني إيطاليا من نقص هطول الأمطار في السنوات الثلاث الماضية، ومن الارتفاع العام في درجات الحرارة.
تشهد فرنسا، أيقونة الإنتاج الزراعي في الإتحاد الأوروبي، أسوأ موجة جفاف منذ أن بدأت السجلات في عام 1958. انخفضت المياه المتاحة لأغراض الزراعة إلى النصف.
ومن المتوقع أن يكون محصول الذرة أقل بنسبة 20% تقريباً من عام 2021. ترك الجفاف قرى تعاني من انعدام مياه الشرب وكأنّها في أفريقيا.
البرتغال سجلت أشد درجات حرارة منذ بدء التسجيل قبل 75 عام، ويعاني 99% من البلاد من جفاف شديد. وصل متوسط درجات الحرارة لأعلى من 40 درجة مئوية. حوالي 75% من أراضي رومانيا ضربها الجفاف. ومن المتوقع أن ينخفض محصول الحبوب في البلاد بمقدار 30 مليون طن.
في المملكة المتحدة، كسرت درجات الحرارة حاجز 40 درجة مئوية لأول مرة على الإطلاق، وكانت الأكثر جفافاً منذ عام 1976.
تقول المجموعة الوطنية للجفاف إنه بحلول عام 2050 يمكن أن تحتوي بعض الأنهار على مياه أقل بنسبة 80% خلال فصل الصيف، وقد ترتفع درجات الحرارة بأكثر من 7 درجات مئوية نتيجة لتغير المناخ.
العالم يعاني
يضرب الجفاف قارات العالم الأخرى. تقول الأمم المتحدة إن الجفاف يؤثر على إفريقيا أكثر من أي قارة أخرى، إذ إن 44% من الجفاف العالمي يفتك بأراضيها. وهي ضحية التغيرات المناخية رغم أنها لا تشارك في إنتاج غازات الاحتباس الحراري بنسبة تذكر.
حذرت منظمة الأغذية والزراعة للأمم المتحدة، الفاو، من أن القرن الإفريقي يشهد أسوأ موجة جفاف منذ أكثر من 40 عامًا، حيث يواجه السكان جوعاً شديداً في إثيوبيا والصومال وأجزاء من كينيا بعد تدمير المحاصيل الزراعية على مدار أربع سنوات متتالية.
في الولايات المتحدة الأميركية، كشف نظام معلومات الجفاف الوطني أنّ أكثر من 44% من الولايات المتحدة ضربها الجفاف في نهاية يوليو وتراجع إنتاج القمح بنسبة 3%، ومن المتوقع انخفاض إنتاج الذرة بنسبة 10%. وهناك 130 مليون شخص يتأثرون حالياً بالجفاف، يعيشون على 229 مليون فدان من المحاصيل تعاني من الجفاف والحرارة.
في 2022، ضربت الهند وباكستان موجة حرّ هي الأشد منذ عام 1901، حيث بلغ معدل هطول الأمطار ربع إلى ثلث المعدل الطبيعي، ما تسبب في تلف 20% من محصول القمح وأوقفت الهند الصادرات.
في أغسطس/آب تحول الجفاف في باكستان إلى إعصار أغرق حوض نهر السند وقتل أكثر من ألف شخص، وحوّل القرى وحقول المحاصيل إلى بحيرة بعرض 100 كيلومتر، وقدرت الخسائر الأولية بـ10 مليارات دولار.
تساهم باكستان بأقل من 1% من انبعاثات غازات الاحتباس الحراري في العالم، ومع ذلك فهي تشهد بعضاً من أشد آثارها، ما يعد دليلا على أن الدول الغنية يجب أن تتحمل جزءا كبيرا من المسؤولية، فهي تتسبب في التغيرات المناخية لكنّ الدول الفقيرة تدفع الثمن الأكبر.
الصين، وهي أكبر منتج ومستهلك للقمح والأرز في العالم، أصدرت تحذيراً من الجفاف على مستوى البلاد إذ تعاني ندرة هطول الأمطار وواحدة من أشد موجات الحرارة الشديدة منذ ستة عقود أضرت بإنتاج الأرز والقمح والقطن. انخفاض الإنتاج الزراعي في الصين سيؤدي إلى مجاعة عالمية حيث تملك القدرة على الاستيراد من السوق الدولية أكثر من أي دولة أخرى في العالم.
من المتوقع أن تستورد الصين 9.5 ملايين طن من القمح و6 ملايين طن من الأرز، وفقًا لتوقعات وزارة الزراعة الأميركية.
الزراعة المتضرر الأكبر
الزراعة، وليس الصناعة، هي المتضرر الأكبر من التغيرات المناخية المتطرفة، وتواجه اليوم تحديًا غير مسبوق على مستوى الدول المتقدمة والنامية معا، ولكن الاخيرة أكثر تأثراً، إذ تتراجع مساحة الأراضي الصالحة للزراعة بسبب الجفاف والتصحر، وتعرية التربة وتدهورها، والتملح، ما يعرض إنتاج الغذاء العالمي للخطر، والذي يتعين تعظيمه لتحقيق الأمن الغذائي اللازم لمواكبة النمو السكاني في العالم.
رغم انخفاض مؤشر متوسط أسعار الغذاء لمنظمة الأغذية والزراعة، فاو، في شهر أغسطس المنصرم للشهر الخامس على التوالي بنسبة 1.9%، مدفوعا باستئناف الصادرات من موانئ البحر الأسود في أوكرانيا لأول مرة منذ أكثر من خمسة أشهر من الانقطاع.
لكن المؤشر يظل أعلى من مثيله في نفس الشهر من العام الماضي بنسبة 8% تقريبا. وهو أعلى بنسبة 45% من مثيله قبل أزمة كورونا. وكذلك أسعار القمح، ما زالت أعلى بنسبة 55% مما كانت عليه في سنة 2019. ومن المتوقع أن تنخفض المخزونات العالمية من الحبوب وإنتاج القمح في عام 2022 لأول مرة منذ أربع سنوات.
يستهلك العالم 70% من المياه العذبة المتاحة في ري المحاصيل، وهي نسبة كبيرة قد لا تتوفر في المستقبل. تتوقع البحوث الزراعية في سيناريو المناخ حتى 2030 أن الجفاف قد يؤدي إلى تراجع إنتاجية محصول القمح بنسبة تصل إلى 20%.
ومن المتوقع أن تنخفض غلة محصول الأرز المروي بحوالي 5% إلى 10%. أما إنتاج الأرز البعلي فيمكن أن ينخفض بمعدل 5% إلى 35%، مع خسارة مساحة زراعية بنحو 10%. ومن المتوقع أن تنخفض غلة الذرة المروية بحوالي 40%.
تتوقع دراسة أميركية أن إنتاج القمح في جنوب آسيا سينخفض بنسبة 50% بحلول عام 2050، أي ما يعادل 7% تقريبًا من إنتاج المحاصيل العالمي.
يتوقع معهد بيترسون الأميركي أن الإنتاج الزراعي في البلدان النامية سينخفض بشكل أكبر بين 10% إلى 25% وأن الاحتباس الحراري سيقلل من القدرة الزراعية للهند بنسبة 40% إذا استمر على حاله.
القمح المقاوم للجفاف
وفي ظل مناخ جديد حار وجاف، يحتاج العالم اليوم أكثر من أي وقت مضى لمضاعفة الاستثمار في البحوث الزراعية المعنية باستنباط وإنتاج أصناف وسلالات من بذور الحبوب الغذائية التي تتحمل الجفاف والحرارة العالية وتقضي عمراً قصيراً خلال مراحل النمو والإزهار والإثمار لتوفير مياه الري وتقليل تداعيات الجفاف. وتقاوم الأمراض النباتية المصاحبة للتغيرات المناخية الطارئة.
وكذلك الاستثمار في بحوث صيانة التربة الزراعية من التملح وزيادة محتواها من المواد العضوية لزيادة احتفاظها بالرطوبة والمغذيات ومقاومتها لعوامل التعرية والجفاف. واستنباط أصناف محاصيل تستهلك كميات أقل من المياه أو تزيد الإنتاجية الزراعية من نفس كمية المياه المستخدمة حالياً، وتتميز بكفاءة عالية في امتصاص الماء والمغذيات من التربة الزراعية.
في تقديري أنّ العالم يحتاج إلى ثورة زراعية جديدة، يكون للدول المتقدمة دور أكبر في دعم الدول النامية، بالموارد المالية والتقنية والكوادر البحثية، لاستنباط أصناف وسلالات نباتية متنوعة، حيث لا تصلح سلالة واحدة لبيئات مختلفة ومتطرفة مناخيا، ولا تتركها وحيدة في مواجهة تغيرات مناخية لم يكن لها يد فيها، ولزيادة إنتاج الغذاء محليا لتفادي مجاعة محتملة.
ولعلاج استباقي لموجات هجرة جماعية، حيث تتوقع الأمم المتحدة أن يؤثر الجفاف على أكثر من 75% من سكان العالم بحلول عام 2050، ويمكن أن ينزح أكثر من 215 مليون شخص من منازلهم بسبب الجفاف.