رغم التعافي الذي شهده الاقتصاد الجزائري في النصف الأول من عام 2022، مدفوعاً بعودة مداخيل النفط والغاز إلى مستويات ما قبل جائحة كورونا وارتفاع أسعار الطاقة عالمياً، واستمرار تعافي قطاع الخدمات إلى جانب تحسن إنتاجية القطاع الزراعي؛ فإن الجزائر ما زالت تعاني من أزمات غذائية واحتجاجات عمالية وسخط شعبي من الحكومة الجزائرية.
ومن المفترض أن يستمر التعافي حتى عام 2023، بدعم من القطاع غير الهيدروكربوني ونمو الإنفاق العام، وفقًا لإصدار آخر تحديث اقتصادي للجزائر عن البنك الدولي.
ورغم هذه البيانات الإيجابية، يرى المحلل الجزائري زين العابدين غبولي من جامعة غلاسكو البريطانية، أن الجزائر واجهت أصعب وضع اقتصادي في بداية العام الماضي منذ أحداث أكتوبر/تشرين الأول من العام 1988، عندما نزل آلاف الشباب إلى الشوارع للاحتجاج على أزمة اقتصادية ناجمة عن انخفاض أسعار النفط وإجراءات التقشف وتضخم أسعار السلع الاستهلاكية والبطالة الجماعية. وأدت الاضطرابات الاجتماعية الكبرى، التي عرفت باسم "أكتوبر الأسود" وقتها، إلى تغييرات سياسية كبيرة، بما في ذلك محاولة الدمقرطة الفاشلة في عام 1991.
وإلى جانب الاحتجاجات على غلاء الأسعار التي تشهدها الجزائر، نفذت، اليوم الثلاثاء، 32 نقابة مستقلة ممثلة لعمال التربية والتعليم، بالإضافة إلى عمال الصحة والبريد والتضامن والإدارات (البلديات)، ونقابة الأئمة وعمال الشؤون الدينية؛ إضراباً متجدداً، للضغط على الحكومة الجزائرية من أجل سحب مشاريع القوانين التي بادرت بها، وعرضتها على البرلمان للمناقشة، واصفة هذه الخطوة بـ"المرور بالقوة"، الذي سيعقّد الأمر أكثر.
وفي هذا الشأن، يرى الخبير زين العابدين غبولي، أن الجزائر تعاني من أزمة هيكلية في الاقتصاد، وأن أزمة السلع الغذائية تنبع من أن البلاد تعتمد بشكل كبير على واردات السلع الأولية. وعلى الرغم من جهود الحكومات المتعاقبة لتنويع الاقتصاد وتغطية الطلب المحلي الإجمالي؛ لا يزال العجز التجاري يمثل تحديًا كبيرًا وعبئًا ماليًا. وقد دفع ذلك إدارة الرئيس عبد المجيد تبون إلى الإبقاء على الحظر على واردات بعض السلع، بهدف تحسين مؤشرات الاقتصاد الكلي.
وكانت توقعات البنك الدولي للاقتصاد الجزائري في العام الجاري 2023، تشير إلى انتعاش الأرصدة الخارجية، واستمرار النمو على خلفية ارتفاع أسعار الهيدروكربونات العالمية. وبعد نمو يقدر بنحو 59% خلال الأشهر الستة الأولى من عام 2022، بلغ ذروته في يونيو/حزيران؛ انخفض متوسط سعر الصادرات الهيدروكربونية الجزائرية حوالي 26% في الربع الثالث من عام 2022. كما يشير تقرير البنك الدولي إلى أن الأرصدة الخارجية للجزائر تعززت بفعل الارتفاع الملحوظ في الصادرات غير الهيدروكربونية. كما تحسنت معدلات التبادل التجاري للجزائر مع ارتفاع قيمة الدينار مقابل الدولار واليورو.
وعلى الرغم من ذلك، يخلص التقرير إلى أن التضخم بقي مرتفعاً في البلاد عند 9.4 في المائة على أساس سنوي خلال الأشهر التسعة الأولى من العام الماضي 2022، وارتفعت أسعار المواد الغذائية بنسبة 13.6%. وكانت الأسر الأكثر فقراً هي الأكثر تأثراً.
ووسط السخط الشعبي وضغوط الاحتجاجات الشعبية ضد الحكومة، استجابت السلطات بتكثيف الإجراءات لحماية القوة الشرائية في المقام الأول من خلال زيادة رواتب الخدمة المدنية وإدخال إعانات البطالة للشباب الباحثين عن عمل لأول مرة، وتعزيز الإعانات للمواد الغذائية الأساسية.
ويحذر تقرير البنك الدولي، من أن هذا المستوى من الإنفاق يمكن أن يؤدي إلى تحديات على المدى المتوسط إذا انخفضت أسعار النفط العالمية، وبالتالي خفض الإيرادات الحكومية والإصلاحات الهيكلية.
وقال الممثل المقيم للبنك الدولي في الجزائر، كمال براهم: "من الأهمية بمكان أن نحافظ على المسار.. إن تنفيذ تدابير خطة العمل الحكومية لزيادة تعبئة الإيرادات الضريبية، واستخدام الموارد العامة بكفاءة أكبر، وتعزيز استثمارات القطاع الخاص، أمر ضروري لمواجهة التحديات العالمية بأمان، ووضع الجزائر على طريق النمو المستدام والشامل".
ويتوقع البنك الدولي أن ينمو الاقتصاد الجزائري بنسبة 2.3 في المائة في عام 2023. ومع ذلك، تظل توقعات الاقتصاد الكلي عرضة للتقلبات في أسعار الهيدروكربونات العالمية. ويقول التقرير إنه على المدى المتوسط إلى الطويل، يجب أن يصبح القطاع الخاص غير الهيدروكربوني المحرك للنمو الجزائري وتنويع الاقتصاد.
من جانبها توقعت شركة بيمكو الأميركية، في تقرير لها عن الجزائر، أن يظل الحساب الجاري في فائض في عام 2023، وأن يسجل عجزاً يتسع تدريجياً اعتباراً من عام 2024.
وضاعفت الجزائر إنتاجها الغذائي للفرد بأكثر من مرتين منذ العام 2020، من خلال البرامج الحكومية والابتكارات الزراعية.
متاعب اقتصادية
وحسب المحلل الجزائري زين العابدين غبولي، في تحليل لمعهد "ميدل إيست للدراسات" بواشنطن، فإن الجزائر عانت نقصاً حاداً في الغذاء، أصاب السوق الجزائرية بالشلل خلال الصيف الماضي، حيث حظرت وزارة التجارة بيع زيت الطهو للأطفال. وبحسب وزير التجارة كمال رزيق وقتها، فإن جهات مشبوهة غير محددة كانت تقوم بتجنيد الأطفال لشراء كميات كبيرة من المنتجات الأساسية لإعادة بيعها بأسعار مرتفعة للغاية. وأثار بيان الوزير حينها انتقادات واسعة عكست السخط الشعبي الواسع والمتنامي ضد الحكومة الجزائرية.
ويرى المحلل الجزائري، أن نقص الغذاء ليس ظاهرة جديدة في الجزائر، بل نتيجة لنموذج اجتماعي واقتصادي اتبعته البلاد منذ فترة طويلة. حيث تأسس العقد الاجتماعي في الجزائر بعد الاستقلال على نظام اقتصادي يكلف الآن أكثر مما تستطيع الدولة تحمله بالنظر إلى عائداتها.
وعلى الرغم من أن الارتفاع الأخير في أسعار النفط والغاز ساعد حكومة الرئيس عبد المجيد تبون على شراء السلام الاجتماعي في البلاد، فإن سيطرة النخبة الحاكمة على النظام السياسي يعتمد بدرجة كبيرة على قدرتها على توفير الأمن الغذائي للطبقات الفقيرة في المجتمع.