تحت قيادة الزعيم الإصلاحي الشهير دنغ شياو بينغ، شرعت الصين في الثمانينيات من القرن الماضي في التخلي عن قيود الإيديولوجية، متبنية سياسات تقوم على التطبيق العملي واكتساب الخبرات، تحت عنوان "الإصلاح والانفتاح"، ما أطلق العنان للقدرات الإبداعية وريادة الأعمال لدى أفراد الشعب، وسمح للبلاد، إلى حدٍ كبير، بالخروج من العزلة التي فرضتها على نفسها.
أدرك دنغ أن الصين تحتاج إلى التنمية، وهو ما تطلب السعي لإقامة علاقات خارجية مستقرة تساعد على تشجيع التجارة والاستثمار الدوليين، فتخلص من الدعم الماوي (نسبة إلى الزعيم السابق ماو تسي تونغ) للثورة العالمية المناهضة للرأسمالية، ووضع النزاعات البحرية مع جيران الصين جانباً، مفضلاً دمج الصين تدريجياً في النظام الليبرالي العالمي الذي تقوده الولايات المتحدة.
خرجت العقيدة الاقتصادية التي تبناها دنغ شياو بينغ، والتي يشار إليها غالباً باسم "الاشتراكية ذات الخصائص الصينية"، عن إيديولوجية ماو، حيث دعا دنغ إلى إصلاحات موجهة نحو السوق وإلى إدخال عناصر الرأسمالية ضمن إطار اشتراكي عام، وأصبح هذا النهج حجر الزاوية في استراتيجية التنمية الاقتصادية في الصين.
تمحورت رؤية دنغ حول تحقيق أربع تحديثات رئيسية: الزراعة، والصناعة، والدفاع، والعلوم والتكنولوجيا. ومن خلال التركيز على هذه المجالات، كان يهدف إلى دفع النمو الاقتصادي في الصين وتعزيز قدرتها التنافسية العالمية.
وإدراكًا لأهمية القطاع الزراعي، بدأ دنغ سياسات لتحقيق اللامركزية في الزراعة وإدخال نظام مسؤولية الأسرة. وكان هذا التحول من الزراعة الجماعية إلى المسؤولية الأسرية الفردية سبباً في إطلاق العنان لإمكانات المزارعين في الصين، وتعزيز الإنتاجية الزراعية بشكل كبير.
وكان إنشاء المناطق الاقتصادية الخاصة على يد دنغ، بدءاً بمدينة شنزن، بمثابة مراكز تجريبية للإصلاحات الموجهة نحو السوق، والتي اجتذبت الاستثمار الأجنبي، وشجعت الصناعات الموجهة للتصدير، وسهلت نقل التكنولوجيا، ومهد نجاح هذه المناطق الطريق لتحرير اقتصادي أوسع في جميع أنحاء البلاد.
أكد دنغ أهمية التقدم العلمي والتكنولوجي في النمو الاقتصادي في الصين، ودعا إلى الاستثمار في البحث والتطوير، وتحديث الصناعات من خلال نقل التكنولوجيا، وتعزيز الابتكار لتعزيز القدرة التنافسية للصين في السوق العالمية.
عمل دنغ على تشجيع الاستثمار الأجنبي ووضع سياسات لجذب الشركات متعددة الجنسيات لتأسيس عمليات في الصين، وساعد تدفق رأس المال الأجنبي والتكنولوجيا والخبرات على تحديث الصناعات الصينية، كما ساهم في النمو الاقتصادي السريع في البلاد.
تضمنت سياسات دنغ الاقتصادية إعادة هيكلة الشركات المملوكة للدولة لزيادة الكفاءة والقدرة التنافسية، فأدخل عناصر المنافسة في السوق وحوافز الربحية داخل قطاع الدولة، ما أدى إلى ظهور اقتصاد مختلط، يسمح للشركات المملوكة للدولة والخاصة أن تزدهر.
وتحت قيادة دنغ، شهدت الصين استثمارات كبيرة في مجال البنية التحتية، وربطت مشروعات الطرق السريعة والسكك الحديدية والموانئ وشبكات الاتصالات المناطق التي كانت معزولة بالمناطق الحية، وهو ما سهل التكامل الاقتصادي والتجاري.
ركزت سياسات الرئيس الصيني على التنمية الإقليمية لمعالجة الفوارق الصارخة بين المناطق الساحلية والداخلية، ما شجع على إنشاء مناطق جديدة بعيدة كل البعد عن الفجوات الاقتصادية.
وضعت السياسات الاقتصادية التي انتهجها دنغ الأساس للنمو الاقتصادي والتحول الملحوظ في الصين، وانتشلت مئات الملايين من غياهب الفقر، ليصبحوا من أبناء الطبقة المتوسطة المزدهرة، ووضعت الصين كقوة اقتصادية عالمية بارزة.
أحدثت السياسات الاقتصادية لدنغ ثورة في الاقتصاد الصيني ووضعت الأمة على طريق غير مسبوق من التقدم، كان نهجه الاقتصادي سبباً في تحويل مصير البلاد. واستمر إرث دنغ في تشكيل السياسات الاقتصادية في الصين، حتى أصبحت المبادئ المتمثلة في التحديث والانفتاح والإبداع جزءا لا يتجزأ من الرؤية الاقتصادية الصينية. وبينما تمضي الصين قدماً إلى الأمام، فإن مساهمات دنغ ستبقى نقطة تحول رئيسية في تاريخها.
كان دنغ يردد دائماً "أن تصبح ثرياً هو أمر مجيد"، وهو ما يعكس تأييده لخلق الثروة وريادة الأعمال. وقد لخص هذا الشعار تحوله في التركيز من الصراع الطبقي إلى التنمية الاقتصادية، وتشجيع الأفراد على تحقيق النجاح الاقتصادي والازدهار.
بفضل هذه التحولات، شهدت الصين فترة رائعة من التنمية الاقتصادية والاجتماعية غير المسبوقة في تاريخ البشرية نتيجة لسياسة "الإصلاح والانفتاح" والمشاركة بشكل أكبر مع المجتمع الدولي. وكما أشار رئيس البنك الدولي الأسبق جيم كيم قبل فترة، فإن "الصين زادت نصيب الفرد من الدخل بمقدار 25 ضعفاً، وانتشلت أكثر من 800 مليون صيني من الفقر وحققت وحدها ما يقرب من 70% من إجمالي جهود الحد من الفقر في العالم".
تمدد النفوذ الصيني خلال العقود الأربعة الأخيرة، حتى أنه وفقًا لبعض المقاييس أصبحت الصين أكبر اقتصاد في العالم، وهو ما اعترفت به وكالة المخابرات المركزية الأميركية، التي قالت أيضاً إن بكين أصبحت تتمتع بقوة سياسية عالمية هائلة وجيش يتطور بسرعة كبيرة. لم يعد السؤال المطروح اليوم ما إذا كانت الصين سوف تصبح قوة عظمى، بل كيف ستستخدم الصين قوتها المكتشفة حديثا.
ولكن في عام 2018، بدا أن الصين تبتعد عن بعض السياسات التي ساهمت في نجاحها المذهل، الذي كان مبنياً على سياسات دنغ. وفي خطابه بمناسبة الذكرى الأربعين للإصلاح والانفتاح، أشار الرئيس الصيني الحالي شي جين بينغ إلى استمرار تشديد ضوابط الحزب الشيوعي الصيني على الاقتصاد والمجتمع، رغم أنه أثنى على دنغ وسلط الضوء على نجاحات الحزب في فترة الإصلاح والانفتاح.
وتحت قيادة شي، ابتعدت الصين مرة أخرى عن سياسة "تجنب عبادة الأشخاص" التي رسخها دنغ، حيث ظهرت حملات جديدة تعزز مكانة شي وتوسع سلطته في قيادة الصين، بصورة غير محدودة. وحالياً تشهد الصين مرحلة من التباطؤ الاقتصادي، مع تصاعد ملحوظ في أزمات السيولة لدى العديد من الشركات الكبرى، ما أرجعه كثيرون إلى الابتعاد عن سياسات دنغ، والعودة إلى زيادة سيطرة الحكومة والحزب على مقدرات الاقتصاد في البلاد.
فهل تعتبر الدول العربية؟