الصين تنتقل إلى الهجوم في حرب التكنولوجيا مع أميركا

23 مايو 2023
الصين تحظر منتجات ميكرون تكنولوجي للرقائق الإلكترونية الأميركية (Getty)
+ الخط -

شنّت الصين أحدث هجوم في حرب أشباه الموصلات المتصاعدة مع الولايات المتحدة، لتدشن بذلك مرحلة جديدة في صراع الرقائق الإلكترونية بين أكبر اقتصادين في العالم، حيث تنتقل بكين من خط الدفاع إلى الهجوم، وذلك عبر "ضرب سمعة" أكبر شركة أميركية لتصنيع الرقائق، في وقت تكافح واشنطن لإعادة بناء قدرات صناعاتها في هذا المجال والتي تقهقرت خلال السنوات الماضية، بعد ريادة طويلة تسيّدت خلالها العالم.

مساء الأحد الماضي، أعلنت هيئة مراقبة الأمن السيبراني الصينية، أن شركة "ميكرون تكنولوجي" الأميركية لصناعة الرقائق فشلت في اجتياز مراجعة الأمن الإلكتروني في البلاد، وطلبت من مشغلي البنية التحتية للمعلومات الحيوية الكف عن شراء منتجات هذه الشركة، ما يمثل ضربة مؤلمة لصناعة الرقائق الأميركية، إذ لن يقتصر العزوف عن منتجات هذه الشركة على الجهات الحكومية الصينية، وإنما أيضا مختلف الصناعات والشركات العاملة في الصين.

وتدخل الرقائق الإلكترونية (أشباه الموصلات) في كل شيء حاليا، ابتداء من الهواتف الذكية والأجهزة الكهربائية والمنزلية إلى أسواق الأسهم والسيارات وحتى الصواريخ والطائرات. وأصبح قطاع التكنولوجيا ساحة معركة رئيسية بشأن الأمن القومي بين الولايات المتحدة والصين أكبر اقتصادين في العالم، إذ أدرجت واشنطن بالفعل شركات تكنولوجيا صينية في القائمة السوداء، وأوقفت تدفق المعالجات المتطورة لها، وحظرت على مواطنيها تقديم مساعدات معينة لصناعة الرقائق الصينية، في محاولة لكبح التقدم الصيني في هذا المجال الاستراتيجي.

وبجانب حجب التكنولوجيا الأميركية، عمدت واشنطن إلى حشد حلفائها، لاسيما في أوروبا وكوريا الجنوبية وتايوان، من أجل اتباع إجراءات مماثلة، لكن بكين نجحت إلى حد كبير في امتصاص الضربات التي وجهتها إدارة الرئيس السابق دونالد ترامب والحالي جو بايدن عبر تحييد العديد من الأسواق، لاسيما أن الصين أضحت بالفعل بالنسبة لهذه الأسواق مصنع العالم ومصدرا حيويا لسلاسل الإمداد.

وبنهاية العام الماضي، بدأت الصين في الانتقال من دائرة الدفاع إلى الكشف عن تمكّنها من الاستغناء عن مصادر رئيسية للتكنولوجيا الأميركية، قبل أن تبادر بـ"الهجوم والانتقام" أخيراً عبر القيود التي فرضتها على شركة ميكرون تكنولوجي، ما دعا الولايات المتحدة إلى التنديد بهذه الخطوة.

وقال متحدث باسم وزارة التجارة الأميركية في بيان، أمس الاثنين: "نعارض بشدة القيود التي لا أساس لها في الواقع". وتابع المتحدث الأميركي أن "هذا الإجراء إلى جانب استهداف شركات أميركية أخرى يتعارض مع تأكيدات (الصين) بأنها تفتح أسواقها وتلتزم بإطار تنظيمي شفاف".

وأشار إلى أن الولايات المتحدة ستعمل مع الحلفاء لمعالجة "تشويه أسواق الرقائق الإلكترونية بسبب تصرفات الصين".

يأتي حظر رقائق ميكرون تكنولوجي، بعد أكثر من شهر من إعلان الصين عن إجراء تحقيق في الواردات من الشركة.

ونقلت وكالة بلومبيرغ الأميركية عن هولدن تريبليت، مؤسس شركة Trenchcoat Advisors والمسؤول السابق في مكتب التحقيقات الاتحادي لمكافحة التجسس في بكين: "ينبغي ألا يفهم أحد قرار إدارة الأمن السيبراني في الصين بحق شركة ميكرون تكنولوجي على أنه شيء سوى الانتقام من ضوابط التصدير الأميركية على أشباه الموصلات.. هذه إجراءات سياسية محضة، وأي نشاط يمكن أن يكون المُستهدَف التالي".

وتزيد الخطوة الصينية حالة عدم اليقين أيضاً بالنسبة إلى صانعي الرقائق الأميركيين الآخرين الذين يبيعون منتجاتهم للصين، أكبر سوق في العالم لأشباه الموصلات. فشركات مثل "كوالكوم" و"برودكوم" و"إنتل" تبيع مليارات الرقائق إلى العملاق الآسيوي، لتجد هذه المكونات طريقها إلى المنتجات الإلكترونية التي تُصدرها الصين لجميع أنحاء العالم.

رفع أسهم المنافسين

وصعدت أسهم أكبر منافستين لـ"ميكرون" وهما "سامسونغ إلكترونيكس" و"إس كيه هاينكس" في كوريا الجنوبية. وارتفعت كذلك أسهم شركات الرقائق الصينية، بما في ذلك رائدتا القطاع "سيميكوندكتور مانيوفاكتشرينغ إنترناشيونال كورب" و"هوا هونغ سيميكوندكتور" بأكثر من 3% في هونغ كونغ.

وبينما شككت الولايات المتحدة في التقييم الصيني لمنتجات ميكرون تكنولوجي، قالت وكالة الفضاء الإلكتروني الصينية في بيانها، إنه بينما ترحب الدولة بالمنتجات والخدمات التي تقدمها الشركات من جميع البلدان ما دامت تمتثل لقوانينها ولوائحها، فإن التحقيق في منتجات "ميكرون" هو "إجراء ضروري" لحماية الأمن القومي. ولم توضح بالتفصيل مخاطر الأمان أو تحدد منتجات "ميكرون" التي طاولها الحظر.

أما "ميكرون"، التي سبق أن أكدت على تمسّكها بأمن منتجاتها والتزاماتها تجاه عملائها، فقالت في بيان، الأحد، إنها تقيّم نتيجة المراجعة وكذلك خطواتها التالية، مضيفة أنها تتطلع إلى "مواصلة الحوار مع السلطات الصينية".

وحصلت "ميكرون" على نحو 11% من إيراداتها السنوية البالغة 30.8 مليار دولار العام الماضي من الصين، وفق بيانات الشركة. ورغم أن هذه النسبة تعتبر صغيرة نسبيا مقارنة بشركات التكنولوجيا الكبرى الأخرى، فإن الكثير من إنتاج الإلكترونيات في العالم يمر عبر المصانع الصينية بطريقة ما، ومن المحتمل أن تضرّ خطوة الصين بعلاقات العملاء مع شركة الرقائق الأميركية.

ويكمن الخطر في أن المشترين في الصين سيقررون تجنّب أي مخاطر بعد تحذير بكين، وبالتالي الابتعاد عن كل منتجات الشركة الأميركية. وقد يصبّ ذلك بدوره في مصلحة منافستي "ميكرون" الرئيسيتين وهما "سامسونغ" و"هينكس" الكوريتين الجنوبيتين واللتين لديهما مصانع للرقائق في الصين، وفق بلومبيرغ. ومعظم منتجات "ميكرون" يجري تصنيعها وفقاً للمعايير المعتمدة في هذه الصناعة، ما يعني أنه يمكن بسهولة استبدال الرقائق التي تصنعها بتلك الخاصة بالمصنعين المنافسين.

وجزء كبير من منتجات ميكرون المباعة في الصين اشترتها شركات مصنعة أجنبية، وفق مختصين، ولم يتضح ما إذا كان قرار هيئة الأمن السيبراني يؤثر على مبيعات الشركة للمشترين الأجانب. وأعلنت الصين عام 2021 قواعد أكثر صرامة لحماية البنية التحتية للمعلومات الحيوية، كما عززت مؤخرا تطبيق قوانين أمن البيانات ومكافحة التجسس.

وتُعَد "ميكرون" آخر شركة مصنّعة لذاكرة الكمبيوتر مقرها في الولايات المتحدة، تنجو من التراجع الحاد الذي أصاب قطاع الرقائق الإلكترونية الأميركي، وأجبر شركات منافسة كبرى، من أمثال "تكساس إنسترومنتس" على الانسحاب من النشاط.

وتعمل إدارة الرئيس جو بايدن على تعزيز قطاع أشباه الموصلات المحلي. وارتفعت مشتريات الولايات المتحدة من آلات صناعة الرقائق الإلكترونية الخاصة بالحاسب الآلي من تايوان إلى حجم قياسي في مارس/آذار الماضي مرتفعة بنسبة 42.6% مقارنة بنفس الشهر من العام الماضي، مسجلة 71.3 مليون دولار، وفق البيانات الرسمية.

انتزاع زعامة العالم

ولا يمكن للصين أن تنتزع زعامة العالم من الولايات المتحدة، حتى لو تفوقت عليها في حجم إجمالي الناتج المحلي، ما لم تحسم معركة الرقائق الإلكترونية. وتصاعدت حرب الرقائق بين بكين وواشنطن العام الماضي عندما فرضت الولايات المتحدة قيوداً على حصول الصين على الرقائق المتطورة ومعدات صناعة الرقائق والبرمجيات المستخدمة لتصميم أشباه الموصلات.

كما أدرجت واشنطن شركات صينية على لائحة سوداء، من بينها شركة "يانغتسي ميموري تكنولوجيز" المنافسة لشركة "ميكرون".

وبرّرت واشنطن قرارها بمخاوف تتعلق بالأمن القومي، وقالت إنها تريد منع القوات المسلحة وأجهزة الاستخبارات الصينية من الحصول على "تقنيات حساسة ذات استعمالات عسكرية".

وسبق أن فرضت الولايات المتحدة قيوداً على مبيعات منتجات الشركات المحلية المعنيّة في الخارج. كما تسعى إلى إقناع حلفائها الرئيسيين بأن يحذوا حذوها.

في هذا السياق، أعلنت مؤخرا كل من هولندا واليابان، وكلاهما مصنعتان رائدتان لمعدات تكنولوجيا أشباه الموصلات المتخصّصة - عن قيود جديدة على تصدير منتجات معينة، لكنهما لم تذكرا الصين صراحة.

وانتقدت بكين القيود ووصفتها بأنها "تكتيكات تنمّر أميركية" واتهمت واشنطن بممارسة "الإرهاب التكنولوجي"، مؤكدة أن مثل تلك القيود لن تؤدي إلا إلى تعزيز عزمها على تحقيق الاكتفاء الذاتي في القطاع.

وتطوير صناعة محلية قوية لأشباه الموصلات هدف طويل الأمد للحكومة الصينية التي استثمرت مليارات الدولارات في شركات الرقائق المحلية.

والرقائق هي شريان الحياة للاقتصاد العالمي الحديث، فهي تستخدم في تشغيل كل شيء من السيارات إلى الهواتف الذكية، ومن المتوقع أن تصبح صناعة بقيمة تريليون دولار على مستوى العالم بحلول عام 2030.

وتظهر حيوية هذه الصناعة في الصين، ثاني أكبر اقتصاد في العالم، والتي تعتمد على إمدادات ثابتة من الرقائق الأجنبية في تصنيع الإلكترونيات. وعام 2021، استوردت الصين أشباه موصلات بقيمة 430 مليار دولار، وهو مبلغ أكبر مما أنفقته على استيراد النفط.

المساهمون