تقترب سلطات تونس من جني أولى ثمار قانون الصلح الجزائي بعد الدخول في مفاوضات حول إبرام صلح جزائي مع عضو البرلمان السابق ورجل الأعمال لطفي علي المسجون في قضية تحقيق منافع من صفقات مشبوهة في قطاع نقل الفوسفات.
ويثير القانون حفيظة العديد من الجمعيات والمنظمات، وقد تمت مواجهته في حملات بينها "مانيش مسامح" (لا أسامح) التي ترفض إطلاق سراح المتهمين بالفساد بعد دفعهم الغرامات.
ومنذ أغسطس/آب 2021، أصدر القضاء التونسي قراراً بسجن النائب لطفي علي بعد تحقيقات أجراها القضاء المالي في قضايا تتعلق بصفقات نقل مادة الفوسفات، وعبّر علي أخيراً عن رغبته في الاستفادة من آلية الصلح الجزائي التي تمنحه الحرية مقابل دفع أموال لصالح الدولة، تعويضا عما حققه من مكاسب مالية بطرق غير قانونية.
وواجه لطفي علي، أول المرشحين من الانتفاع من الصلح الجزائي، تهما في ثلاث قضايا منذ عام 2019 تعلقت بغسل الأموال وفساد مالي وإداري والإثراء غير المشروع وتضارب المصالح.
ويعد إنجاح آلية الصلح الجزائي التي يتبناها الرئيس قيس سعيد شخصيا من الآليات التي تعوّل عليها الدولة لتعبئة موارد مالية لفائدة الخزينة العامة وتمويل مشاريع تنموية في الجهات الفقيرة وتوفير الأموال لإحداث شركات أهلية لفائدة طالبي الشغل.
وكشف محامي لطفي علي فيصل الجدلاوي في تصريحات إعلامية أن القضاء طالب موكله بدفع 5 ملايين دينار مقابل عقد صلح نهائي، مرجحا أن يصل المبلغ النهائي إلى 11 مليون دينار، أي نحو 3,6 ملايين دولار، باحتساب 10 في المائة كنسبة فائدة عن كل سنة، واصفا هذا المبلغ بالكبير جداً.
مئات ملفات الفساد
وتتطلع سلطات تونس إلى جمع ما يزيد عن 13.5 مليار دينار، أو ما يعادل 4,5 مليارات دولار، من عائدات الصلح مع المتهمين بالفساد بناء على تقييمات لـ460 ملفاً أحصتها لجنة تقصي الحقائق حول الرشوة والفساد، لأشخاص حققوا منافع غير قانونية بسبب قربهم من نظام بن علي.
ووفقا لآخر رقم رسمي مصرح به من مسؤولين من لجنة الصلح الجزائي قدّم 27 طالب صلح ملفاتهم من أجل الانتفاع بالآلية التي تمنحهم حق إنجاز صلح شامل مع الدولة، وإيقاف كل أشكال التتبع الجزائي في حقهم مقابل دفع مبالغ يتم تحديدها من قبل اللجنة.
وقال رئيس الجمعية التونسية لدعم المحاكمة العادلة، المحامي وليد العرفاوي، إن عدد المتقدمين للصلح الجزائي يفوق الرقم الرسمي المصرح، مشيرا إلى أن القضاء أفرج عن مسجونين آخرين مرتبطين بصفقات نقل الفوسفات.
وأكد العرفاوي، في تصريح لـ"العربي الجديد"، أن إقبال المدانين في قضايا مالية وتحقيق الكسب غير المشروع على الانتفاع بآلية الصلح الجزائي أكبر بكثير ممن يرتبطون بقضايا فساد ولا زالوا خارج السجون ويتمتعون بالحرية. وأشار إلى أن قانون الصلح سيساعد على توحيد المسار القضائي بعد تشتيته طوال السنوات الماضية على أكثر من لجنة قضائية، ما تسبب في إفلات العديد من الفاسدين من العقاب.
وأشار المتحدث في ذات السياق إلى أن مسار الصلح الجزائي عرف تعثّرا في بداياته بسبب طول مدة الاختبارات القانونية على الملفات الثقيلة، وعدم التجاوب الكافي من قبل بعض الدوائر الحكومية للحصول على وثائق مهمة لاستكمال الملفات، مؤكدا أن معدّل البت في الملف الواحد يستغرق نحو 3 أشهر.
ويرى رئيس الجمعية التونسية لدعم المحاكمة العادلة أن اللجنة قادرة على جمع 13 مليار دينار من الصلح الجزائي الذي يشمل قضايا تمتد على أكثر من عقد من الزمن، فضلا عن تأثير ارتفاع معدل التضخم على تزايد قيمة الغرامات المستوجبة في ملفات تتعلّق بقضايا جمركية وبتبييض الأموال والكسب غير الشرعي.
ورجّح العرفاوي أن لا تتوقف آلية الصلح الجزائي عن العمل في الآجال المضبوطة بالمرسوم الرئاسي، مشيرا إلى أن هذه الآجال قابلة للتمديد خدمة للشأن العام. وقيّد مرسوم الصلح الجزائي آجال عمل لجنة الصلح الجزائي (تقصي الحقائق) التي يعيّن أعضاؤها بأمر رئاسي بستة أشهر قابلة للتمديد مرة واحدة. وفي 10 مايو/أيار الماضي انقضت المدة الأولى لعمل اللجنة.
وعود بلا تنفيذ
وأكد خبير الاقتصاد خالد النوري أن النفاذ إلى الوثائق الرسمية من قبل لجنة الصلح الجزائي لم يكن بالأمر الهيّن، وهو ما يفسر تعثر المسار خلال مدته الأولى.
وقال المتحدث، في تصريح لـ"العربي الجديد"، إن الجهاز المصرفي ولا سيما المصارف الحكومية مطالبة بتعاون أكبر مع لجنة الصلح الجزائي ومدها بالوثائق اللازمة لإجراء التحقيقات التي يطلبها القضاء والانخراط بجدية في مشروعي الصلح الجزائي وتمويل مشاريع الشركات الأهلية.
وفي مارس/آذار 2022، أعلن سعيّد طرح مرسوم يتعلق بالصلح الجزائي مع رجال الأعمال "حتى يسترد الشعب أمواله المنهوبة"، مؤكداً أنه "إجراء قانوني معروف وعوض الزج بالمتهم في السجن، يدفع الأموال التي تمتع بها بشكل غير مشروع إلى الشعب".
ثم تلا الإعلان الرسمي صدور المرسوم الخاص بالعفو الذي تضمن أحكاماً تتعلق بكيفية تطبيق الصلح والأشخاص الواقعين تحت طائلة المرسوم إلى جانب ضبط طرق التصرف في الأموال المزمع استعادتها.
غير أن آلية الصلح تعثّرت خلال الأشهر الستة الأولى من عمرها، حيث لم تتمكن اللجنة المعينة من البت في أي ملف، وهو ما تسبب في إقالة رئيسها حينها مكرم بن منا. كما وجه الرئيس سعيد في مارس/آذار الماضي انتقادات بسبب "تراخي لجنة الصلح الجزائي مع الفاسدين"، قائلاً إنّ "الأموال التي اعتُرِف بنهبها من الفاسدين بلغت 13.5 مليار دينار، ويجب استرجاعها".
وقال سعيّد: "نحن في سباق لاسترجاع أموال الشعب المنهوبة من الفاسدين، ورغم صدور المرسوم المنظّم لعمل لجنة الصلح الجزائي، لا شيء يذكر قد تحقق"، وفق فيديو نشرته الرئاسة التونسية.
ويهدف الصلح الجزائي، بحسب نص المرسوم الرئاسي، إلى استبدال الدعوى العمومية أو ما ترتب عنها من تتبع أو محاكمة أو عقوبات أو طلبات ناتجة منها قُدِّمَت أو كان من المفروض أن تقدم في حق الدولة أو إحدى مؤسساتها أو أي جهة أخرى، وذلك بدفع مبالغ مالية أو إنجاز مشاريع وطنية أو جهوية أو محلية بحسب الحاجة.
ويفضي الصلح الجزائي، بحسب المرسوم، إلى توحيد مسار استرجاع الأموال المنهوبة بقصد إعادة توظيفها في التنمية الوطنية والجهوية والمحلية وتحقيق المصالحة الوطنية في المجال الاقتصادي والمالي.
وفي مايو/أيار الماضي انتقدت منظمة "أنا يقظ" (مدنية متخصصة في مكافحة الفساد) عدم تحقيق آلية الصلح لأية نتيجة بعد انتهاء آجال عمل اللجنة التي ضبطها المرسوم الرئاسي. وقالت المنظمة في بيان أصدرته "بعد انتهاء آجال لجنة الصلح الجزائي، وبالرغم من الخطابات المشحونة بالوعود، الخزائن لازالت خاوية من النقود".
وأكدت المنظمة "أن حصيلة أعمال لجنة الصلح الجزائي ليست إلا نتيجة متوقعة وحتمية لتطبيق مرسوم الصلح الجزائي، حيث إنّنا سبق أن تنبأنا بفشل المشروع الأحادي للرئيس"، واعتبرت أن "الخطاب السياسي الشعبوي الذي باع وهما للمواطنين من أجل جني أصواتهم في صناديق الاستفتاء والاقتراع يصطدم بواقع فشل هذا المشروع بسبب سوء الحوكمة وغياب السياسات العموميّة الواضحة".
ويرى عضو الهيئة التسييرية لمنظمة أنا يقظ، مهاب بن قروي، أن سلم تحديد التعويضات المطلوبة من المعروضين على الصلح لا تزال غامضة، لا سيما وأن المكلّف العام بنزاعات الدولة سبق أن قيّم الأضرار الناجمة عن الصفقات التي حصل عليها لطفي علي بـ180 مليون دينار، بينما عرضت لجنة الصلح الجزائي عقد صلح معه مقابل 11 مليون دينار فقط.
وقال بن قروي، في تصريح لـ"العربي الجديد"، إن المنظمة طلبت في إطار حق النفاذ إلى المعلومة من لجنة الصلح الجزائي تمكينها من الاطلاع على مقاييس الصلح، لا سيما في ما يتعلق بالمشاريع التي تعهد المتهمون بالفساد بإنجازها في مناطق داخلية، تعويضا عن الأضرار التي تكبدتها الدولة جراء الفساد.
وعبّر المتحدث عن مخاوف من أن يضر الصلح الجزائي بالصالح العام بعد تخلي الدولة عن جزء من حقوقها في ظل تباين التقييمات بين الخسائر والأموال التي ستطلبها لجنة التعويضات.
وتونس التي تعاني من وضع مالي واقتصادي صعب تحاول حشد موارد لفائدة الموازنة من الداخل والخارج بعد تعثر مسار التفاوض مع صندوق النقد الدولي حول قرض بقيمة 1,9 مليار دولار.