الشيخوخة تهدد إيطاليا... حكومة ميلوني تُبدل مواقفها من المهاجرين لسد العجز في اليد العاملة
تواجه الحكومة الإيطالية بزعامة اليمينية المتشددة جورجيا ميلوني معضلة كبيرة تتعلق بتناقض موقفها من المهاجرين، والذي يتحول من الرفض الشديد لهم إلى فتح الأبواب مع حاجة البلد الذي تهدده الشيخوخة إلى أيد عاملة من خارج أوروبا لإنعاش الاقتصاد المأزوم.
ولطالما تبنت ميلوني خطاباً سياسياً يوصف بأنه شبه فاشي، لأسباب تعود لنشأة حزبها "إخوة إيطاليا" الذي يحمل أفكاراً تؤيد الديكتاتور الأسبق بينيتو موسوليني، حيث وصلت ميلوني في خريف العام الماضي 2022 تحت شعارات "وقف الهجرة"، التي يجري "تشجيعها بشكل منظم لأجل إضعاف الأغلبية البيضاء" بحسب الخطاب الشعبوي.
وتعتبر ميلوني وحزبها أن الهجرة واللجوء نحو موانئ بلادها من الضفة الجنوبية للبحر الأبيض المتوسط بمثابة "تهديد وجودي لثقافة وشعب إيطاليا". هذه الأيام يبدو أن الواقع يفرض شيئاً مختلفاً عن الشعارات المتشددة.
فالبلد الصناعي الكبير لا يعيش فقط أزمة شيخوخة المجتمع، بل أزمة على مستوى العمالة، حيث يختل توازن المعروض مع المطلوب. وللخروج من مأزق حاجة البلاد إلى العمالة الخارجية، لإنقاذ الاقتصاد، ستضطر على ما يبدو أكثر حكومة متشددة في تاريخ إيطاليا منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، إلى الترحيب بالهجرة.
خلال صيف العام الحالي بدا الأمر واضحاً للطبقة السياسية، فالبلد يحتاج إلى عشرات آلاف العمالة من الخارج. واضطرت ميلوني إلى التصريح بأن "الاتحاد الأوروبي وإيطاليا "بحاجة إلى الهجرة".
صحيح أن الطرفين وقعا اتفاقية مع الرئيس التونسي، قيس سعيد، لأجل وقف الهجرة مقابل المال (بنحو 800 مليون يورو بحسب موقع راي نيوز الإيطالي)، إلا أن الحقيقة والواقع يفرضان انتهاج سياسات أخرى لسد النقص الكبير في العمالة، والذي يعوق التنمية الاقتصادية في إيطاليا.
ويبدو أن النقاشات في روما تتوجه نحو خلق "طرق هجرة قانونية"، بالاتفاق مع أوروبا، من أجل تمهيد الطريق لاستقبال يد عاملة ماهرة وغير ماهرة من خارج السوق الأوروبي، وإن كان بصفة "إقامات مؤقتة وللعمل فقط"، لتهدئة الناخبين المصابين بصدمة الانعطافة الكبيرة عند اليمين المتشدد، سواء في صفوف "إخوة إيطاليا" بزعامة ميلوني أو لدى "الرابطة" (اليميني الشعبوي) برئاسة ماتيو سالفيني، وغيرهما من أحزاب وقوى هذا الجناح السياسي القومي.
مبدئيا جرى في روما خلال الأيام الأولى من سبتمبر/أيلول الجاري منح 452 ألف عامل غير أوروبي إمكانية الوصول إلى سوق العمل الإيطالي خلال ثلاثة أعوام، حتى يتمكنوا من أداء وظائف قصيرة وطويلة الأجل أيضا، في قطاعات مثل الزراعة والسياحة والحرف ورعاية المسنين.
وفي العام الجاري سيتم تأمين العمل لنحو 136 ألف شخص، وفي العام القادم 151 ألفا، وفي 2025 حوالي 165 ألف شخص. تلك الأرقام تعد قفزة كبيرة في إيطاليا، التي لم تصدر منذ 2015 (أي على مدار 8 سنوات) أكثر من 30 ألف تأشيرة عمل سنوياً من خارج الاتحاد الأوروبي.
مضاعفة الأرقام خلال 3 سنوات يعني أن الأزمة عميقة في الاقتصاد الإيطالي الذي يضغط فيه عدد كبير من مؤسسات ومنظمات الأعمال الصناعية والتجارية لأجل توظيف القادمين من خارج أوروبا.
وطأة التراجع الديموغرافي
أشارت صحيفة "لا ستامبا" الإيطالية أخيراً إلى أن تسويق مراسيم استقبال مهاجرين من العمال "يجري تمريره بهدوء، فهذا أمر مفهوم، لأنه من الصعب على الأحزاب اليمينية المناهضة للمهاجرين شرح الحقيقة لناخبيها، عن أننا نحتاج إلى المهاجرين بنفس الطريقة التي نحتاج بها إلى الهواء الذي نتنفسه".
وأشارت الصحيفة إلى أنه بدون تلك الهجرة فإن إيطاليا "ستدفن تحت وطأة التراجع الديموغرافي". وكان النمو الاقتصادي في إيطاليا معدوماً إلى حد كبير منذ مطلع الألفية، كما أن الأزمة الديموغرافية التي تعيشها البلاد تجعل آفاق المستقبل قاتمة.
ووفقا لوكالة الإحصاء الوطني الإيطالية "إيستات"، انخفض عدد السكان بمقدار 179 ألف شخص في العام الماضي، وخلال العقد الماضي انخفض عدد السكان بنحو 1.36 مليون نسمة.
ووفقا لمنظمة التعاون الاقتصادي والتنمية، قد يكون عدد الإيطاليين في عام 2050 أقل بنسبة 20% مقارنة بعام 2000. (الآن 58.85 مليون نسمة).
وتشير تقديرات مكتب إحصاءات الاتحاد الأوروبي "يوروستات" إلى أن قوة العمل في إيطاليا سوف تنخفض في غضون السنوات الثلاث المقبلة بنحو 630 ألف شخص، لأن عدد المتقاعدين أكبر كثيراً من عدد الأشخاص الجدد في سوق العمل.
وفي 39 مقاطعة من مقاطعات البلاد الـ107، أصبح عملياً عدد المتقاعدين الآن أكبر من عدد العاملين بأجر، بحسب تقارير متخصصة وإعلامية إيطالية. وتتزايد الأسئلة الملحة حول من سيدفع المعاشات التقاعدية ويبقي عجلة الاقتصاد دائرة، إذا كان المجتمع ذاهباً نحو شيخوخة مؤثرة سلبياً؟
وخلال إبريل/نيسان الماضي كانت ميلوني تصر على أن العمالة المهاجرة ليست حلاً لمشكلة نقص العمالة في البلاد. بل طرحت أفكاراً مثل "أن نبدأ الحديث قبل الهجرة عن إمكانية دخول المزيد من النساء إلى سوق العمل، وزيادة معدل المواليد". واعتبرت أن تلك الأفكار تتطلب "تحديد أولوياتنا".
غض النظر عن ممارسات العبودية
لكن منذ ذلك الحين، وخلال نحو 4 أشهر، قرع القائمون على دوران عجلات الاقتصاد أجراس خطر تتعلق بواقع ومستقبل قاتمين. والأمر يتعلق بحسابات وزارة المالية في روما للخروج من المأزق، التي رأت أنه إذا زاد عدد المهاجرين بمقدار الثلث، فسوف يكون بمقدورها خفض الدين الوطني الضخم لإيطاليا مقارنة بالناتج المحلي الإجمالي بأكثر من 30 نقطة مئوية.
واليوم يوجد ما يزيد قليلا عن خمسة ملايين مهاجر بشكل قانوني في البلد ويساهمون في تغطية سوق العمل الإيطالي. أضف إلى ذلك أن البلد يحتضن حوالي 600 ألف عامل مهاجر "غير شرعي"، ويأتون بصفة أساسية من أفريقيا وجنوب آسيا. وبعض هؤلاء يعيشون ويعملون في ظروف غير آدمية في قطاعات زراعية، تصفها منظمات حقوقية وعمالية بأنها أشبه بالعبودية، وخصوصا في مزارع جنوبي البلاد، كالطماطم وصناعاتها الضخمة، حيث يجري فعليا بيع وشراء العمالة تحت ظروف أشبه بعمل المافيا، وتسمى بالإيطالية "كابورالاتو".
ونظام استعباد العمالة هذا ليس جديداً بحق العمالة غير النظامية، حيث يحاول البرلمان الإيطالي منذ 2019 نبش القصة بعد أن فاحت رائحة العبودية منها، لكن دون نتيجة حقيقية بفضل تأثير ونفوذ أصحاب المال في عالم السياسة في روما.
ويركز ساسة المعارضة على تلك الوقائع لاتهام رئيسة الحكومة ميلوني بأنها تمارس سياسة "ازدواجية ونفاقاً"، فمن ناحية ترفض الهجرة وفي الأخرى ترحب بها، كمن تسير على حد سيف سياسي لعدم إغضاب الشارع من ناحية وللاستجابة لضغوط الاقتصاديين في الأخرى.
وانتقدت بحدة عضو البرلمان الإيطالي عن "الحزب الديمقراطي"(يسار الوسط المعارض) لورا بولدريني سياسات ميلوني، واليمين الإيطالي عموما. وكتبت على موقعها في "إكس" (تويتر سابقا) أنه "بالنسبة لأولئك الذين أسسوا حياتهم السياسية على تشويه صورة الهجرة، باعتبارها خطراً على الأمن القومي، فمن المرير الآن أن يروا ذلك يطبق عكسه، فالسلطات في أعين الناس منافقة".
في كل الأحوال، من الواضح إن شعارات التطرف السياسي في روما وبقية عواصم القارة العجوز تجاه الهجرة لا تلغي حقيقة أن اليد العاملة من المهاجرين، تعد أحد مفاتيح الخروج من أزمات شيخوخة المجتمعات من ناحية وقدرة الاقتصادات على البقاء مستقبلا.