كما مزقت رئيسة مجلس النواب الأميركي نانسي بيلوسي، خطاب الرئيس المنتهية ولايته، دونالد ترامب، في فبراير/ شباط الماضي، تعود لتمزيق تاريخه السياسي ومستقبله التجاري والمالي بعد جائحة اجتياح أنصاره الكونغرس الأميركي التي قد تقود إلى عزله أمام الكونغرس خلال الأيام المقبلة.
ولا يستبعد خبراء أن تتجاوز خسائر الرئيس ترامب بعد عزله تاريخه ومستقبله السياسي وتمتد لتطاول مستقبله التجاري والمالي وتحطم إمبراطوريته العقارية التي ظل يباهي بها العالم طوال السنوات الماضية التي قضاها في البيت الأبيض، خاصة وأن هنالك العديد من القضايا المالية التي تنتظره وتنتظر شركاته المثقلة بالديون أمام المحاكم الأميركية.
وبعد العزل سيخسر ترامب الحصانة التي يمنحه إياها منصب الرئاسة، والتي حمته حتى الآن من الملاحقة القضائية في قضايا الاحتيال والتزوير الضريبي وحالات إفلاس كاذبة وغيرها.
ومنذ قضية اقتحام مبنى الكونغرس في "كابيتول هيل" الخطيرة التي نفذها أنصاره والتي تعد بمثابة انقلاب على الديمقراطية ومؤسستها التشريعية، تعرضت شركات ترامب للمقاطعة من قبل العديد من المصارف والشركات الأميركية والبلديات في المدن التي كانت تمنحه عقوداً تجارية سنوية مربحة لعقاراته وأندية الغولف.
في هذا الشأن، قال عمدة نيويورك، بيل دي بلاسيو، مساء الأربعاء، إن بلدية نيويورك لن تتعامل في المستقبل مع مؤسسة ترامب التجارية. وهو ما يعني أن مؤسسة ترامب ستخسر عقوداً سنوية قيمتها 17 مليون دولار.
وعلى الرغم من أن العقد ليس كبيراً، إلا أن قرار حظر التعامل مع شركاته، يأتي في وقت حرج، تحتاج فيه شركاته بشدة للتمويلات لتسديد ديونها المتصاعدة، كما أن قرار بلدية نيويورك سيشجع بلديات أخرى في مدن لديه فيها عقارات واستثمارات مثل ميامي ولوس أنجليس وشيكاغو على اتخاذ قرارات مماثلة.
وتملك مؤسسة ترامب التجارية أهم بناياتها التجارية في حي مانهاتن الذي يستضيف أكبر البنوك الاستثمارية في العالم، بالإضافة إلى حي المال الأميركي في "وول ستريت". وكان ترامب يعول على زيادة إشغال ناطحة سحاب "ترامب تاور" وبناية "20 وول ستريت"، بعد نهاية جائحة كورونا، على تاريخه السياسي وعلاقته التي بناها مع شركات "وول ستريت" خلال سنوات حكمه.
ويعتقد ترامب أنه كان من الأسباب الرئيسية في إثراء تايكونات المال بأميركا والارتفاع الجنوني في مؤشرات الأسهم ببورصة نيويورك. ولكن يبدو أن كل ذلك سيذهب أدراج الرياح بعد جائحة اجتياح مبنى الكونغرس وما أحدثه أنصاره من خراب في داخل المبنى.
وفي ذات الصدد، قالت شركة "كوشمان ويكفيلد"، كبرى شركات الاستشارات العقارية في أميركا، مساء الثلاثاء، إنها أوقفت تعاملاتها مع مؤسسة ترامب. وكانت "كوشمان ويكفيلد" تدير عقارات ترامب لمدة 40 عاماً، وتقدم لها النصح والاستشارات وترتب لها عقود الإيجارات في أنحاء الولايات المتحدة.
وتبحث مؤسسة ترامب منذ يوم الثلاثاء عن شركة بديلة لتقديم الاستشارات والخدمات بعد قرار "كوشمان ويكفيلد" التخلي عن ترامب وشركاته ولكن دون جدوى، فالشركات تبتعد عن مؤسسة ترامب في الوقت الراهن خوفاً من خسارة أعمالها التجارية مع عملاء آخرين في السوق الأميركي. وحسب صحيفة "فايننشال تايمز"، تواجه شركات ترامب ديوناً تقدر بنحو 1.1 مليار دولار، من بينها 900 مليون دولار يحين أجل سدادها خلال السنوات الأربع المقبلة.
ومن المتوقع أن تواجه شركات ترامب كذلك المزيد من المضايقات المالية بعد عزله عن الرئاسة وربما محاكمته، إذ أعلن العديد من المصارف التخلي عنه.
وكانت هذه المصارف تتعامل معه في التمويلات الجديدة وإعادة جدولة ديون شركاته، وإصدار السندات، إذ أعلن يوم الأربعاء، كل من مصرف "دويتشه بنك" ومصرف "سيغنتشر بانك" الاستثماري في نيويورك وقف التعامل معه.
ويعد مصرف "دويتشه بنك" الألماني من المصارف المهمة لمؤسسة ترامب في مسيرتها التجارية، إذ إن المصرف الألماني منحه القروض لتمويل أعماله الفندقية والترفيهية في أعقاب رفض مصارف "وول ستريت" التعامل معه في بداية القرن الجاري، حينما واجهت شركاته أزمات الإفلاس وابتعد عنها الممولون الأميركيون.
على صعيد تأثير عزل ترامب على أسواق المال، يرى العديد من خبراء الاستثمار، أنه لا يعني شيئاً بالنسبة للمستثمرين الذين تتركز أنظارهم حالياً على سياسات الرئيس المنتخب جو بايدن المالية وحزمة التحفيز، ولكن البعض يرى في عزله فائدة للسوق، إذ إنه يعني أن ترامب لن يترشح مرة أخرى لمنصب الرئاسة وهذا سيطمئن كبار المستثمرين ويشجعهم على عدم التعامل معه بعد عزله وينهي بالتالي أية حال من التردد أو الخوف وسط مجتمع الأعمال الأميركي في نبذه ويبعد شبح احتمال عودته للبيت الأبيض مرة أخرى بعد أربع سنوات والانتقام من الذين تعاملوا معه بقسوة.
ويرى خبراء أن هذا مفيد لكبار اللاعبين في سوق "وول ستريت"، وبعض المليارديرات الذين استهدفهم ترامب خلال سنوات حكمه.
في هذا الشأن، يقول الخبير المالي والاقتصادي بمصرف "يو بي أس" السويسري، بول دونوفان: "عزل ترامب بنجاح من الرئاسة يعني للمستثمرين، أنه سيحظر من الترشح مرة أخرى لمنصب الرئيس في الولايات المتحدة".
ويشير في مذكرة لعملاء البنك، إلى أن "هذا مهم لأنه إن لم يحدث العزل والمحاكمة، فإن بعض كبار المستثمرين ربما يضعون في اعتبارهم احتمال ترشحه أو احتمال كسبه للانتخابات في المستقبل والتعامل معه بلطف".
وحول تأثير عزله على توجهات الأسهم الأميركية، يقول خبير الاستثمار بشركة "آلاي إنفست" الاستثمارية في نيويورك: "ببساطة، لا أعتقد أن عزل ترامب يعني شيئاً بالنسبة لسوق الأسهم الأميركية... أنظار المستثمرين تتركز نحو إدارة بايدن وتداعيات سياستها المالية على القطاعات المختلفة والصناعات".
أما خبير الاستثمار والاقتصادي دونوفان فيرى في مذكرته للعملاء، "أن عزل ترامب سيعني توسيع دائرة الخلافات بين الحزبين الجمهوري والديمقراطي وربما سيجعل تمرير التشريعات صعباً في الكونغرس على إدارة الرئيس المنتخب بايدن".
وتحبذ أسواق المال تاريخياً أن يكون الكونغرس منقسماً بين الحزبين، حتى تستفيد من الخلافات في تمرير أجندتها المالية.
يذكر أن ترامب سبق أن أعلن عن نيته الترشح مرة أخرى لمنصب الرئاسة الأميركية في الدورة الانتخابية المقبلة. وهذه ليست المرة الأولى التي تتجاهل فيها أسواق المال عزل ترامب فقد سبق أن تجاهلته في العام 2019، خاصة وأن عزل ترامب يأتي هذه المرة في الأيام الأخيرة لنهاية ولايته. ويعد عزل ترامب هذه المرة سابقة في التاريخ الأميركي الحديث منذ الاستقلال قبل 231 عاماً، إذ إنه ولأول مرة يتم عزل رئيس مرتين.
ولكن على صعيد تداعيات العزل على الإدارة الجديدة وبرنامجها لتصحيح مسار الاقتصاد ومكافحة جائحة كورونا، يرى خبراء استثمار، أن محاكمة ترامب والتي ربما تتم بعد العزل وبعد تنصيب الرئيس جوزيف بايدن في يوم 20 يناير/ كانون الثاني، ستشتت انتباه الكونغرس خلال فترة الرئاسة الجديدة، خاصة وأن المائة يوم الأولى تعد حاسمة في تقييم أداء الرئيس الأميركي وعادة ما تقاس على أساسها قوة نفوذ الرئيس وقدرته على إدارة شؤون البلاد والتعامل مع قضايا المال والاقتصاد الملحة التي تشغل بال مجتمع الأعمال والمصارف والشركات في الوقت الراهن.
وعلى صعيد الدعاوى التي تنتظر الرئيس ترامب، ذكرت مجلة "نيويوركر" الأميركية في تقرير سابق، أن ترامب نجا خلال فترته الرئاسية من حوالي أربعة آلاف دعوى قضائية، بينها ست دعاوى تتعلق بحالات إفلاس ترتبط بشركاته.
وفي الوقت الحالي، فإن هناك تحقيقين في نيويورك قد يكون كل منهما مدخلاً لملاحقة قانونية، وهما تحقيق جنائي أطلقه مدعي عام مانهاتن سايروس فانس، ويدور حول تهم بشأن تزوير ضريبي وعمليات احتيال على شركات التأمين وتلاعب بالسجلات المحاسبية. أما الاتهام الثاني، حسب المجلة الأميركية ذاتها، فهو تحقيق مدني أطلقته المدعية العامة في ولاية نيويورك ليتيسيا جيمس حول شبهات بشأن كذب مؤسسة ترامب في شأن حجم أصولها للحصول على قروض وامتيازات ضريبية من السلطات المالية.