بدأت موجة السخط الشعبي تتصاعد بين السودانيين ضد سياسات الحكومة الانتقالية الاقتصادية. وزاد الغضب بعد إجازة موازنة عام 2022، فقد مررت وزارة المالية والتخطيط الاقتصادي زيادات ضريبية ورسوماً مختلفة على الشركات والمصانع والتجارة وصلت إلى مستويات عالية، ما يطاول مباشرة معيشة المواطنين.
ورفعت الحكومة تعرفة الكهرباء بنسبة 600 في المائة، تبعتها زيادة أسعار الوقود بنسبة 20 في المائة، ثم جاءت الزيادات الضريبية الكبيرة التي وصلت إلى 100 في المائة في عدد من البنود.
كذا، ارتفعت أسعار الغاز لكلّ القطاعات (سكن وتجارة) بنسبة راوحت ما بين 15و20 في المائة، إضافة إلى رفع تحصيل رسوم النفايات بزيادة بلغت 500 في المائة. يأتي كلّ ذلك مع انعدام تام في نوعية الخدمات العامة المقدمة للمواطنين، وسط عجز كبير في صرف رواتب يناير/ كانون الثاني ما أدى إلى دخول الموظفين في حالة اضطراب واسعة النطاق. وفوق هذه الإجراءات والضرائب، تسعى الحكومة إلى فرض فواتير جديدة على المساكن.
ولم تفلح وزارة المالية في الحصول على رضا السودانيين، بل ندد المواطنون والتجار وأصحاب الشركات بهذه السياسات التي عملت على رفع أسعار السلع كافة في الأسواق، إضافة إلى الزيادات الكبيرة التي لحقت في تعرفة المواصلات العامة، ما أحدث شللاً في الحياة العامة وتسبب في ركود اقتصادي قلل من الطلب على السلع والخدمات، وأدى إلى توقف الكثير من المؤسسات والشركات المالية العاملة في البلاد.
أزمة تطاول الشركات
لكنّ وزير المالية جبريل إبراهيم، قلل من قسوة الإجراءات في حديث مع قناة تلفزيونية محلية، مؤخراص، وقال إنّ الدولة انتهت من دعم البترول وإنّ الزيادات التي تمت جاءت بناء على ارتفاع أسعار النفط عالمياً. وأضاف: "رفعنا الحد الأعلى للأجور من 3 آلاف إلى 12 ألف جنيه".
وأقر بتوقف البرامج الدولية الخاصة بإعفاء الديون واعتبر أن ذلك يستدعي القلق، لكنّه لم يتطرق إلى اتفاقه مع صندوق النقد والبنك الدوليين. وقال إن عجز الموازنة هو أقل بنسبة 1.3 في المائة من العام الماضي.
واعتبر إبراهيم أنّ السودان يبيع الكهرباء بأرخص الأسعار لدرجة أن المستثمرين الأجانب يخشون من الدخول في مجال الطاقة لأنّ المواطن يشترى الكهرباء بسعر 80 قرشاً للكيلوواط.
وأكد أن الدولة ليست بحاجة إلى الإنفاق على دعم السلع الأساسية، مضيفاً: "سنزيد أسعار الكهرباء سنوياً".
ورصدت "العربي الجديد" في جولتها في عدد من الأسواق والشركات آراء الناس. قال أحد ملاك المصانع المحلية (فضّل حجب اسمه) لـ "العربي الجديد": "لا يمكننا العمل في ظل هذه الظروف السيئة ونحن نتعرض لأبشع أنواع الجبايات والزيادات الكبيرة في كل المدخلات والخدمات".
وأشار إلى أنّ إغلاق المصانع سيؤثر على الفئات العاملة التي سوف تتأثر هي الأخرى بهذه الزيادات الضريبية وستفقد مصدر رزقها في آن واحد.
ولفت إلى أنّ أغلب العاملين في مصنعه من النساء اللواتي يعانين من ظروف أسرية منها فقدان الزوج. وأكد أنّ فقدان الوظائف لهذه الفئة يعنى المزيد من التشريد وزيادة نسبة الفقر والبطالة التي تعاني منها معظم الشرائح. وشرح أنّه رغم قلة الدخل إلّا أنّ فقدانه سيزيد الأعباء على المواطنين.
وأكد أحد وكلاء الشركات أنّهم بصدد إغلاق تام لكلّ المصانع العاملة في البلاد نتيجة لهذه التطورات الجديدة. وقال إنّهم كانوا يأملون في تخفيف بعض القيود من رسوم وضرائب وتعرفة الكهرباء والنفايات، إلّا أنّهم فوجئوا بهذه الزيادات الكبيرة في ظلّ حدوث ركود عام في الأسواق نتيجة قلة دخل المواطن السوداني.
وتابع أنّ السلع المستوردة أرخص من المحلية رغم معاناة المستوردين في الحصول على النقد الأجنبي من السوق الموازية، الأمر الذي أدى إلى عدم تقبل التجار بضائعهم.
قال أحد ملاك المصانع المحلية (فضّل حجب اسمه) لـ "العربي الجديد": "لا يمكننا العمل في ظل هذه الظروف السيئة ونحن نتعرض لأبشع أنواع الجبايات والزيادات الكبيرة في كل المدخلات والخدمات
ووصف مواطنون سياسات وزارة المالية بأنّها "جبائية بامتياز" وزادت من نسبة البطالة والفقر في البلاد. وقالوا إنّها تؤدي إلى انهيار كبير للمنظومة الاقتصادية في السودان، في ظل تراجع النشاط الصناعي والتجاري وهروب رؤوس الأموال المحلية والأجنبية.
وأكدوا أن الاقتصاد الكلي للدولة سوف يتأثر بهذه السياسات، ولن تصمد الموازنة أمام كل هذه التداعيات التي وصفوها بالسالبة وتؤثر مباشرة على معيشة السودانيين.
الركود سيد الموقف
ورأى التاجر موسى تاج الدين أن الركود في السوق هو سيد الموقف: "لا يوجد بيع أو شراء نتيجة لقلة دخل الأسر، وتركيزها على ابتياع السلع الأساسية فقط. وأكد أن التجار تأثروا بهذا الوضع وأصبح الكثير منهم يفكر في إغلاق المحال التجارية.
وقال إن عدداً من التجار ترك بالفعل الأسواق نتيجة المضايقات الحكومية وفرضها رسوماً وعوائد ليس بمقدورهم تلبيتها، ويترافق ذلك مع زيادات كبيرة في الإيجارات التي دفعتهم إلى اللجوء إلى توظيف أموالهم في تجارة مثل الدولار والعقار أو اللجوء إلى الاستثمار في الخارج. وأكد أنّ الفترة المقبلة ستشهد المزيد من الإغلاق للشركات وتشريد العمالة.
واعتبر المواطن محمد سعيد إبراهيم في حديث مع "العربي الجديد" أن سياسات صندوق النقد الدولي التي نفذتها الحكومة الانتقالية أصبحت غير مجدية، بعدما جمدت المؤسسات الدولية اتفاقها مع الحكومة الانتقالية وأوقفت الدعم، لكنّ الحكومة مستمرة في تنفيذ الروشتة. ولفت إلى أنّه بذلك أصبح أثر هذه السياسات صعباً على المواطن السوداني الذي لا يتلقى أيّ عوائد بالمقابل.
وقال إنّ من الأجدى للحكومة إلغاء كلّ الاتفاقات والعودة إلى المربع الأول إن كانت تريد مصلحة المواطن "لكنّها مستمرة في تنفيذ هذه الروشتة بعيدا عن المؤسسات الدولية، ونرى اليوم النتائج السالبة التي أثرت على الواقع الاقتصادي والمعيشي".
واستغرب: "إقرار وزارة المالية بصعوبة تنفيذ موازنة عام 2022 حين قالت إنّ هنالك 19 معوقاً يقف أمام تنفيذها، وفي الوقت ذاته تفرض رسوماً جديدة وضرائب باهظة على ما تبقى من مؤسسات اقتصادية محلية ما جعل تلك الشركات والمصانع تغلق أبوابها".
وتوقع: "الأسوأ خلال المرحلة المقبلة إن لم تتراجع الوزارة عن تلك الزيادات والرسوم التي فرضتها على القطاعات المختلفة وصولاً إلى المساكن". وشرح: "تتوجه المحليات إلى وضع زيادات كبيرة على عوائد المنازل ولم يتبقَّ لها إلّا أن تفرض رسوماً على المواطن نفسه لكي تغطي العجز الكبير في موازنة العام الحالي".
سياسات لن تسد العجز
ورأى اقتصاديون أنّ كلّ تلك السياسات التي أطلقتها وزارة المالية لن تسد عجز الموازنة العامة البالغ 800 مليون دولار بعد توقف الدعم الدولي الذي يبلغ 650 مليون دولار.
وقال الاقتصادي محمد الزين لـ "العربي الجديد": "أعلنت وزارة المالية أن العجز يمكن تغطيته من الضرائب والرسوم، خاصة أن بند التنمية متوقف نتيجة تجميد الدعم من مؤسسات التمويل الدولية.
وأضاف: "الحكومة لن تستطيع سد العجز بهذه السياسات، لأن الكثير من المؤسسات أغلقت أبوابها وتوقفت عن العمل فمن أين ستحصل الوزارة على الضريبة؟".
واعتبر أن "الخدمات العامة من تجارة واستثمار التي طاولتها الرسوم، تعاني من ركود وتوقف الأنشطة التجارية، فمن أين ستأتي بالإيرادات لدفع الضرائب؟".
رأى اقتصاديون أنّ كلّ تلك السياسات التي أطلقتها وزارة المالية لن تسد عجز الموازنة العامة البالغ 800 مليون دولار بعد توقف الدعم الدولي الذي يبلغ 650 مليون دولار
وشرح أنّه "حتى لو استمر الدعم من المؤسسات الدولية والدول المانحة لموازنة الدولة فإنّ هنالك 150 مليون دولار عجزاً متبقياً، وهذا من دون أي إنفاق على التنمية، وبالتالي فإنّ وزارة المالية ليس أمامها من خيار سوى التراجع عن سياسات المؤسسات الدولية المانحة والتراجع ايضاً عن سياساتها الجبائية الحالية".
ولفت إلى أنّ الحلول أمام الحكومة ضيقة، وهي تقوم على دعم الأنشطة الإنتاجية وفتح مجالات جديدة للإنتاج لتشغيل الشباب عبر التمويل الأصغر والصغير.
وأكد أنّ "عدم القيام بهذه الخطوة سيدخل البلاد في نفق أسوأ خلال المرحلة المقبلة يصعب فيه علاج اقتصاد مأزوم، خاصة بعدما وصل التضخم إلى أرقام قياسية فاقت 400 في المائة، ما يزيد من المشكلات التي يواجهها المجتمع السوداني".