السعودية: لم رفض الإملاءات الأميركية هذه المرة؟

17 أكتوبر 2022
الرئيس الأميركي جو بايدن (الأناضول)
+ الخط -

وافق تحالف "أوبك +" في 5 أكتوبر/ تشرين الأوّل 2022 على قرار خفض الإنتاج بمقدار مليوني برميل يومياً، والذي سيدخل حيِّز التنفيذ في الأوّل من نوفمبر/ تشرين الثاني المقبل، أي قبل أسبوع واحد فقط من الانتخابات النصفية الأميركية، من أجل الحفاظ على أسعار النفط مرتفعة، وسط مخاوف متزايدة من الركود العالمي الذي يلوح في الأفق، وهي خطوة استشاط بسببها الرئيس الأميركي جو بايدن غضباً، فقد سبق له أن عاد بخُفي حنين من زيارته المملكة في يوليو/ تمّوز الماضي.

في الوقت الذي لقيت فيه هذه الخطوة الجريئة ترحيباً واسعاً في الكرملين، توالت تصريحات أعضاء الكونغرس الأميركي الغاضبة والمندِّدة بقرار تحالف "أوبك +" والمؤيِّدة لتمرير مشروع "NOPEC" أي "لا لتكتُّلات إنتاج وتصدير النفط" الذي حصل على موافقة اللجنة القضائية في مجلس الشيوخ في مايو/ أيار الماضي، وسيسمح لوزارة العدل الأميركية، إذا أصبح ساري المفعول، بمقاضاة الدول الأعضاء في منظمة "أوبك" وحلفائها، بدعوى الاحتكار والتآمر لرفع أسعار النفط.

يقف الرئيس الأميركي بايدن أمام خيارات ضيِّقة ومحدودة لا سيَّما في ظلّ اقتراب موعد توجُّه الناخبين الأميركيين صوب صناديق الاقتراع، وتحديداً في 8 نوفمبر/ تشرين الثاني المقبل للمشاركة في انتخابات التجديد النصفي للكونغرس، وارتفاع احتمالات خسارة الديمقراطيين هذه الانتخابات، والاستنفاد السريع لاحتياطي النفط الاستراتيجي بعد أقلّ من عامين على رئاسته، فقد سمح بايدن بسحب أكثر من 200 مليون برميل من الاحتياطي الاستراتيجي، أي ما يفوق 30 بالمائة من إجمالي الاحتياطي المُخصَّص للاستخدام في الحالات الحرجة والملحّة، وأوصله بالتالي إلى أدنى مستوى له منذ عام 1984 بذريعة المخاطر التي تهدِّد الأمن القومي الأميركي.

والحقيقة أنّه استغلّ هذا الاحتياطي الاستراتيجي بقوّة حتى قبل غزو روسيا لأوكرانيا في فبراير/ شباط 2022، فلم يكن هناك سوى ثلاث عمليات سحب طارئة قبل دخوله البيت الأبيض، وتحديداً 17.3 مليون برميل خلال عملية عاصفة الصحراء أو حرب تحرير الكويت في عام 1991، و20.8 مليون برميل في أعقاب إعصار كاترينا الذي ضرب سواحل الخليج الأميركي في أواخر أغسطس/ آب 2005، و30.6 مليون برميل بعد التدخُّل العسكري في ليبيا في عام 2011.

يلعب الرئيس الأميركي بايدن على كل الحبال ويتقافز بين كل التيَّارات من أجل تحقيق مصالحه الشخصية ومصالح بلاده بأي طريقة كانت، فقد باع جزءاً من احتياطي النفط الاستراتيجي الأميركي إلى الصين من خلال شركة "Sinopec" التي لا يزال ابنه هانتر مرتبطاً معها من خلال مشاريع عدة، واستمرّ في استيراد النفط الروسي بعد أسابيع من غزو أوكرانيا، وتقرَّب من السعودية من أجل النفط بعد أن وعد بجعلها منبوذة، وتودَّد إلى فنزويلا وأرخى حبل العقوبات الأميركية عليها في محاولة لزيادة إنتاجها من النفط.

ونظرة لاحتياجات الأسواق الأميركية من الخام الأسود نجد أنّ الولايات المتّحدة تستهلك ما يقارب 20 مليون برميل من النفط يومياً، بينما تنتج 11.3 مليون برميل من النفط الخام محلياً، وتستورد 8.5 ملايين برميل من النفط والمنتجات البترولية، وفقاً لبيانات إدارة معلومات الطاقة الأميركية (EIA)، ووحدها الضغوط والصفقات والممارسات المشبوهة هي التي تُخلِّص أميركا من شبح الافتقار إلى النفط والتوقُّف الاضطراري لدواليب الصناعة والإنتاج.

لم تعد الألاعيب الأميركية تنطلي على السعودية التي ازداد تقديرها لورقة النفط التي تحوزها، لا سيَّما في ظلّ أزمة الطاقة العالمية التي شرعت في تغيير ملامح النظام العالمي وموازين القوى فيه، فقد أعلن البيت الأبيض في 11 أكتوبر/تشرين الأوّل أنّ الرئيس الأميركي سيعيد تقييم العلاقات الأميركية مع السعودية، بعد قرار خفض إنتاج النفط الذي اعتبره منحازاً إلى روسيا على حساب الولايات المتَّحدة وحلفائها الغربيين.

ومن جهتها، أعلنت وزارة الخارجية السعودية بعد يومين من ذلك أنّ المملكة ترفض اعتبار قرار "أوبك +" بمثابة انحياز لها في الصراعات الدولية، وشدَّدت على أنّ هذا القرار جاء بهدف مراعاة توازن العرض والطلب في أسواق النفط، والحدّ من تقلُّباتها، وأكَّدت في بيان شديد اللهجة عدم قبولها أي نوع من الإملاءات، وانضمت دول مجلس التعاون الخليجي إلى الموقف السعودي، حيث أعربت في بيان لها يوم 13 أكتوبر/تشرين الأوّل عن تضامنها مع السعودية.

لا يخفى على أحد أنّ السعودية كانت المحرِّك الرئيسي لهذا الخفض الجريء الذي أيَّده الكرملين، باعتبار أنها أكبر منتج للنفط داخل منظمة أوبك، كما تقود تحالف "أوبك +" مع روسيا. وبالرغم من صعوبة معرفة الكيفية التي ستستفيد من خلالها المملكة من التحوُّل نحو روسيا التي باتت معزولة بشكل متزايد عقب غزوها أوكرانيا، فإنّه من السهل إدراك مدى الضجر الذي يعتري المملكة نتيجة سلوك أميركا الانتهازي الأقرب ما يكون إلى سلوك رجل الشرطة الفاسد.

تحاول المملكة هذه المرّة إثبات أنها لن تُلدغ من جحر مرتين، وأنّها قد استفادت فعلاً من صمت الولايات المتّحدة أثناء تعرُّض بنيتها التحتية النفطية لهجمات الحوثيين المدعومين من إيران، لذلك اتَّخذت قرار خفض إنتاج النفط الذي يصبّ لصالحها الاقتصادي على المدى القصير، ويتعارض مع مصالحها الأمنية طويلة الأجل التي تبيَّن أنّ أميركا لم تلتزم بالجدِّية في حمايتها.

جاء قرار خفض إنتاج النفط من قبل تحالف "أوبك +" في توقيت شديد الحساسية في المشهد السياسي الأميركي، وكأنّ المملكة تريد أن تردّ الصاع صاعين لأميركا التي خذلتها وسحبت مظلَّتها الأمنية عندما استهدفت هجمات الحوثيين المنشآت النفطية، التابعة لشركة أرامكو، لتمنعها من الشرب من البئر الذي بصقت فيه.

تدرك السعودية أنّها وصلت في علاقتها الأمنية مع أميركا إلى حدٍّ ليس لديها ما تخسره فيه، بل على العكس فهي ترى منافع أخرى في إدارة ظهرها لبايدن وقت الشدة، فسح المجال لبكين لملء الفراغ، التهديد ببيع النفط السعودي بعملات غير الدولار، شراء بعض الأسلحة من دول أخرى غير الولايات المتّحدة، تقييد الاستثمارات الأميركية، وتأليب باقي الدول الخليجية على أميركا.

خلاصة القول، يستبيح الرئيس الأميركي بايدن لنفسه ما يُحرِّمه على غيره، حيث يفرض على السعودية الالتزام بالولاء لأميركا التي تنأى بنفسها عن مسألة الالتزام بتوفير الحماية، وتتحالف مع أعداء المملكة لتحقيق مصالحها، وتعزيز نفوذها.