الرواتب في مصر

08 فبراير 2023
تهاوي الجنيه عمق الصعوبات المعيشية لمعظم المصريين (محمد الشاهد/فرانس برس)
+ الخط -

في إطار محاولاتها إرضاء صندوق النقد الدولي، للحصول على أربعة قروض خلال السنوات السبع الأخيرة، قلصت الحكومة المصرية الدعم الذي كانت تقدمه للمواطنين، على أسعار الوقود والكهرباء والماء والكثير من المواد الغذائية، إلا إنها لم تفعل الشيء نفسه مع مرتباتهم وأجورهم، التي أصبحت الأقل في المنطقة العربية، وربما في العالم.

وفي شهر ديسمبر/كانون الأول الماضي، نشرت عدة مواقع، تقريراً يوضح متوسط الأجور في بعض الدول العربية، فجاءت مصر في المركز الأخير، بمتوسط لا يتجاوز 226 دولاراً شهريا، بينما نشرت هذه الأرقام قبل عدة تخفيضات في قيمة الجنيه المصري، مطلع عام 2023، أي أن الصورة بالتأكيد أصبحت أسوأ الآن.

لم يكن انخفاض متوسط الأجور في مصر وليد السنوات الأخيرة، حيث أشارت العديد من الدراسات، والعديد من الأعمال الدرامية والروايات المنشورة، إلى تدني مستوى معيشة المصريين، خلال العقود السبعة الأخيرة، على أقل تقدير.

واعتادت الحكومات المتتالية، خلال تلك السنين على تعويض المصريين عن انخفاض أجورهم، من خلال تقديم الدعم على الكثير من السلع الغذائية، وبيعها في ما أطلق عليه "الجمعيات الاستهلاكية"، وباستخدام "بطاقات التموين"، التي كانت تسمح للأسر بالحصول على هذه المنتجات بأسعار مخفضة، ولكن بكميات محدودة. وقدمت الحكومة أيضا الدعم على أنواع الوقود المختلفة، ووفرت في بعض الأحيان وسائل انتقال بتكلفة محدودة، قبل أن يتراجع كل ذلك خلال السنوات الأخيرة.

سعد المصريون خلال تلك الفترة بالحصول على السلع الغذائية منخفضة الثمن، التي أبقتهم تحت رحمة الحكومات المتعاقبة، فلم يشعروا بتدني أجورهم مقارنة بالدول الأخرى، حتى بدأ حجم الدعم الموجه لتلك السلع، وللعديد من المنتجات والخدمات الأخرى، في التراجع، مع الدخول في برامج الإصلاح الاقتصادي التي فرضها صندوق النقد الدولي على مصر في الفترة الأخيرة.

كانت هناك علامات كثيرة على تلك الظاهرة، إذ كان السياح القادمون إلى مصر يتعجبون من انخفاض أسعار أغلب السلع المصرية، ومعظم الخدمات المقدمة، وتكاليف الإيجار للمساكن والمكاتب. فلما كنا نحدثهم عن مستويات الأجور في مصر، كانوا يأسفون لحال المصريين، رغم ما عرفوا من انخفاض الأسعار.

وكان أيضا من علامات تلك الظاهرة، سهولة استقدام المصريين لدول الخليج العربي للعمل، حيث كانت الرواتب والأجور التي تعرض عليهم تمثل عدة أضعاف ما كانوا يحصلون عليه في بلدهم، بينما هي تعادل أو تقل عما يحصل عليه المواطن في تلك الدول، سواء كان هؤلاء من أساتذة الجامعة والأطباء والمهندسين والعلماء، أو من الوظائف الأدنى من ناحية المتطلبات العلمية.

تقول الحكومة المصرية الحالية إنها تعوض منخفضي الدخول من خلال العديد من المبادرات الحكومية والأهلية، الموجهة مباشرة لهؤلاء، بدلاً مما كان يحدث من قبل، حيث كان الدعم الموجه للسلع والخدمات يصل إلى من يستحقون ومن لا يستحقون.

يسمح النظام الذي اتبعته الحكومة، والخاص بإلغاء الدعم الموجه للسلع والخدمات، مع استبداله بالبرامج الحكومية الخاصة بالدعم النقدي المباشر، بتحكم الحكومة في توقيت حصول المواطنين على هذا الدعم، بل وأحيانا في من يحصل عليه ومن يحرم منه، بالإضافة إلى التحكم في حجم ما يتم صرفه للمواطنين، بصورة تجعل منهم رهائن في أيدي الحكومة، لا حول لهم ولا قوة.

ويفرض النظام نفسه على المواطنين مستويات منخفضة من الدخل، تجبر أعداداً غفيرة منهم على العمل أغلب ساعات اليوم، في أكثر من وظيفة، وكأن الأمر مقصود لشغلهم عن التفكير في جودة الحياة التي يحصلون عليها، ومدى قربهم أو بعدهم عن مستويات العيش الكريم، ناهيك عن "الرفاهيات" الأخرى من حقوق إنسان وحريات وديمقراطية، على النحو الذي يتمتع به المواطن في شمال وشمال غرب الكرة الأرضية.

ولكي تُحكم السيطرة على المواطن، وتستنزف قواه قبل التفكير في التمرد على هذه الأوضاع، كان يتعين الحفاظ على المستويات المتردية التي يحصل عليها المواطنون من خدمات صحية وتعليمية، لتبقى مدارس وجامعات ومستشفيات مصر الحكومية على الصورة التي نعرفها جميعاً، بينما يجري إنفاق مليارات الدولارات على إنشاء عاصمة جديدة، لا يتسفيد منها إلا أصحاب السطوة، ومن حولهم من الملأ.

لا أحاول هنا إقناع أحد بإعادة الدعم الموجه للسلع والخدمات الذي جرى إلغاؤه خلال السنوات الأخيرة، حتى لا نعيد الكَرَّة بكل مأسيها، وإنما أحاول لفت نظر الحكومة المصرية إلى ضرورة دراسة رواتب وأجور المصريين الضعيفة، بوضع خطة لتقريبها من المتوسطات العربية والعالمية، حتى يتوقف نزول الملايين تحت خط الفقر عاما بعد عام، وحتى نتجنب هجرة العقول الراجحة التي تحتاج إليها البلاد حاليا، أكثر من أي وقت مضى.

الأمر بالتأكيد ليس سهلاً، إلا أنه ليس مستحيلاً، وسيسهل الوصولَ إليه فتحُ السوق المصرية للشركات الأجنبية، من أجل تدفق الاستثمارات المباشرة، التي ستسمح بتنشيط سوق العمل المصرية، من خلال دفع رواتب قريبة من المتوسطات العالمية، بالإضافة إلى ما تمثله من حل أمثل لسد أو تخفيض العجز في الحساب الجاري، الذي عانت منه البلاد لعقود، وتسبب في وقوعها في الأزمة التي نعيشها الآن.

والنقطة الأخيرة التي تجدر الإشارة إليها، هي أن فتح السوق المصرية للاستثمارات الأجنبية، لن يكون من خلال تقديم الإعفاءات الضريبية، أو توفير الأرض منخفضة التكلفة فقط، حيث يتعين توفير البيئة التشريعية والقانونية المطلوبة لضمان حصول المستثمر الأجنبي، وأيضا الأطراف المحلية في مصر، على حقوقهم.

من دون توفير البيئة التشريعية لن يأتي الاستثمار الأجنبي (الحقيقي)، ولن يحصل المصريون على أجور مقاربة للمتوسطات العالمية، ولن يضيق عجز الميزان التجاري، ولن تنتقل خبرات التصنيع والإدارة والتكنولوجيا إلى المصريين، لتتسع الهوة بيننا وبين العالم "الآخر"، وتضيع أعمار المصريين، بينما لا يحصلون على ما يسد رمقهم ورمق أبنائهم.

المساهمون