يواصل الدينار الجزائري السقوط الحر أمام العملات الأجنبية، ليهبط إلى أدنى مستوى له على الإطلاق خلال الأيام الأولى من نوفمبر/تشرين الثاني الجاري، متأثراً باستمرار تداعيات جائحة فيروس كورونا وتراجع إيرادات البلاد من النقد الأجنبي، رغم القفزات التي تسجلها أسعار النفط والغاز منذ بداية 2021.
وهبطت العملة الجزائرية إلى نحو 137.2 ديناراً للدولار الواحد، وفق أسعار البنك المركزي، وانخفضت إلى 156 ديناراً لليورو، وحوالى 185 ديناراً للجنيه الإسترليني.
ويُعَدّ كسر الدولار حاجز 137.2 ديناراً، في التعاملات الرسمية، الأول من نوعه، بعد تسجيله مطلع أكتوبر/ تشرين الأول الماضي 137.17 ديناراً، وسط توقعات بأن يلامس الدولار حاجز 140 ديناراً قبل نهاية العام الجاري، رغم الخطاب الرسمي المطمئن للجزائريين بعودة العافية للعملة التي تعيش أسوأ أيامها.
وفي بداية أزمة انهيار أسعار النفط منتصف عام 2014، كان سعر الدولار يعادل 83 ديناراً، لكنّه ما لبث أن سجل قفزات متتالية على حساب العملة الجزائرية، ليصل إلى 118 ديناراً في 2018، و123 ديناراً في 2019 ومطلع 2020، ومع المستويات الحالية يكون الدينار قد خسر نحو ثلثي قيمته خلال هذه السنوات.
وقدمت الحكومات المتعاقبة منذ 2014، تبريرات لخفض سعر الدينار بالرغبة في امتصاص ارتدادات الصدمة النفطية التي أضرت باقتصاد البلاد، لكنّ هذه التبريرات قد تتبدل لتجد الحكومة في موجات تضخم أسعار السلع الرئيسية العالمية دافعاً جديداً للاستمرار في سياسة تعويم العملة، بغضّ النظر عن آمال تحسن عائدات تصدير الطاقة من جانب البلد الغني بثروات النفط والغاز.
ولا تنوي الحكومة الحالية بقيادة أيمن بن عبد الرحمن، التوقف عن تعويم الدينار، إذ توقعت وزارة المالية التي يتولاها رئيس الوزراء في الوقت نفسه، استمرار تراجع العملة المحلية إلى 140 ديناراً للدولار الواحد نهاية العام الجاري، ونحو 149.3 ديناراً للدولار نهاية 2022، ثم إلى 156.78 ديناراً في 2023 ونحو 164.6 ديناراً للدولار نهاية عام 2024، ما يعني خسارة العملة الوطنية قرابة 100% من قيمتها في عشر سنوات، وفق التقديرات الرسمية.
يقول المحلل المالي، نبيل جمعة، إنّ استمرار هبوط الدينار يرجع إلى تدهور الأنشطة الاقتصادية التي تضررت بفعل الأزمة النفطية والاضطراب السياسي، الذي غذى الصعوبات التي تواجه الشركات الحكومية والخاصة، وبالتالي تراجع الإنتاجية، إذ إنّ النمو الاقتصادي يبلغ واقعياً نحو 1.2% رغم التوقعات الحكومية المتفائلة التي تشير إلى أنه قد يصل إلى 4% هذا العام.
ويضيف جمعة لـ"العربي الجديد" أنّه رغم تحسن أسعار الطاقة عالمياً، فإنّها تظل دون مستويات ما قبل أزمة تهاوي الأسعار في 2014. وكسر خام برنت 84 دولاراً للبرميل نهاية أكتوبر/ تشرين الأول الماضي، قبل أن يتراجع في بداية تعاملات الشهر الجاري إلى نحو 80.5 دولاراً للبرميل.
ورغم أن هذه الأسعار تمثل طفرة غير مسبوقة في سنوات، بينما تظل دون مستويات يونيو/ حزيران 2014، الذي أغلق قبل بداية الانهيارات العالمية عند 112 دولاراً للبرميل.
ويرى الخبير الاقتصادي الجزائري، عبد الرحمن مبتول أنّ "تعويم الدينار إيجابي لموازنة الدولة، إذ سيسمح للحكومة برفع العائدات الضريبية النفطية التي تُضَخّ مباشرة في الخزينة العمومية".
وشكل النفط أهم المبيعات الجزائرية نحو الخارج خلال الأشهر التسعة الأولى من 2021، إذ مثل 92.5% من صادرات الجزائر، بحسب أرقام الجمارك، فقد بلغت إيراداته من العملة الصعبة أكثر من 20 مليار دولار.
يضيف مبتول لـ"العربي الجديد" أنّ "النقطة الإيجابية الثانية التي تريد الحكومة تحصيلها من تعويم الدينار، تقريب الفجوة بين أسعار الصرف الرسمية والسوق الموازية، حيث استقر اليورو عند 200 دينار، مقابل 156 في السوق الرسمية، ووصل الدولار إلى 177 ديناراً مقابل 137.2 رسمياً... الهدف الحكومي واضح، وهو امتصاص الأموال المتداولة في السوق الموازية بتقليص هامش ربح المضاربين فيها".
لكنّ مخاوف المواطنين تتعاظم في المقابل من ارتفاع الأسعار بسبب "فخ التعويم" الذي يُسرّع من وتيرة تراجع القدرة الشرائية للكثيرين.
ويقول الخبير الاقتصادي، جمال نور الدين، إنّ "انخفاض قيمة الدينار أثر سلباً ليس فقط بالفقراء بل بالطبقة المتوسطة أيضاً، وهو يهدد بتعجيل انهيار القدرة الشرائية أكثر في السنة الحالية، بسبب تواصل عملية التعويم وتمسك الحكومة بسياسة تقليص فاتورة الواردات من خلال خفض الدينار لإطالة عمر احتياطي النقد الأجنبي".
ويضيف نور الدين لـ"العربي الجديد" أنّ "الحكومة مدعوة اليوم للتدخل من أجل حماية القدرة الشرائية للمواطن".
ورغم تخصيص الحكومة 24% من الإنفاق على مخصصات الدعم، وفق بيانات موازنة 2020، إلّا أنّ هذا الإجراء لم ينجح في تحسين القدرة الشرائية، وأكبر دليل القفزات التي شهدتها أسعار المواد واسعة الاستهلاك منذ بداية العام الجاري، والتي تعود لسببين: الأول هو المضاربة، والثاني تهاوي قيمة الدينار الذي لا يمكن إخفاؤه" وفق الخبير الاقتصادي الجزائري.
كذلك يتخوف محللون من تداعيات موجة تضخم الأسعار العالمية التي تأثرت سلباً بقفزات أسعار الطاقة وأزمة سلاسل التوريد الدولية، بينما تعتمد الدولة على الاستيراد في تلبية معظم احتياجاتها، ولاسيما القمح الذي قفزت أسعاره إلى أعلى مستوى في 13 عاماً نهاية الشهر الماضي.
والجزائر من أكبر مستوردي القمح في العالم، إذ تأتي بعد مصر، وبينما لا تكشف السلطات عن حجم الواردات السنوية، إلّا أنّ وزارة الزراعة الأميركية قدرت في تقرير حديث لها حجم استهلاك الجزائر من هذه السلعة لموسم 2020/ 2021 بين 10.7 ملايين طن و11 مليون طن، ما يشير إلى استيراد ما يصل إلى 6 ملايين طن سنوياً.
ووصلت أسعار عقود القمح تسليم ديسمبر/ كانون الأول المقبل إلى نحو 284.75 يورو (331.39 دولاراً) للطن، وهو أعلى مستوى منذ مارس/ آذار 2008، وفق تقرير لوكالة "رويترز" أخيراً. وتُحلّق أسعار الغذاء والوقود عالياً في مختلف أنحاء العالم، ما يؤدي إلى زيادة الضغوط نحو مزيد من الارتفاع في أسعار السلع الأساسية وغيرها.
وأصبح شراء الطعام الآن أصعب مما كان عليه في دول ثورات الربيع العربي في 2011، وتعاني البلدان الغنية من المتاعب أيضاً، إذ تؤثر تداعيات جائحة كورونا بمصادر دخل الأفراد، وفق تقرير لوكالة "بلومبيرغ" الأميركية، نهاية الشهر الماضي.