بات صانع القرار في مصر في حيرة شديدة، فأي قرار اقتصادي جديد يُتخذه قد يكون مرتفع الكلفة الاقتصادية وربما السياسية، بخاصة إذا كان يتعلق مباشرة برجل الشارع والأسعار والأجور وكلفة المعيشة.
كما أن جزءاً مهماً من صناعة القرار بات يُطبخ في الخارج حيث مقر صندوق النقد والبنك الدوليين في العاصمة الأميركية واشنطن، وأروقة المؤسسات المالية المناحة الأخرى.
وهناك قوى إقليمية تحاول المزاحمة في صناعة القرار الاقتصادي المصري، مستغلة حاجة مصر الملحة إلى سيولة دولارية تمكنها من سداد أعباء الديون الخارجية وتغطية فاتورة الواردات.
هناك قوى إقليمية تحاول المزاحمة في صناعة القرار الاقتصادي المصري، مستغلة حاجة مصر الملحة إلى سيولة دولارية تمكنها من سداد أعباء الديون وواردات الحبوب
ومن هنا فإن أي خطوة اقتصادية مستقبلية أو قرار مالي يجب أن يتم حساب تأثيراته وتداعيات بدقة، بل وربما دراسة ارتدادات القرار على الشارع والدائنين والممولين مائة مرة قبل حسمه واتخاذ أي خطوة بشأنه.
في ملف العملة المحلية وسوق الصرف الأجنبي مثلا، هناك ضغوط مزدوجة من قبل صندوق النقد الدولي والداعمين الخليجيين على صانع القرار في مصر لإجراء تخفيضات في قيمة الجنيه المصري تحت مبررات عدة، منها أن الخطوة تساهم في جذب مزيد من الاستثمارات الأجنبية وزيادة إيرادات الدولة الدولارية وتنشيط السياحة والصادرات، هذا من وجهة نظر الصندوق، وزيادة ربحية المشروعات من وجهة نظر دول الخليج التي دعمت الدولة المصرية بأكثر من 110 مليار دولار منذ العام 2013 وحتى 2022.
لكن خفض قيمة العملة والاستجابة لتلك الضغوط الشديدة يجعلان الجنيه المصري في مهب الريح، ويعطيان قبلة الحياة للسوق السوداء للعملة والتي هدأت بعض الشيء في الفترة الأخيرة.
كما يعطي خفض الجنيه الأمل للمضاربين وتجار العملة في تحقيق أرباح رأسمالية عالية ومتواصلة على حساب أسعار السلع والأسواق والاقتصاد والمصلحة العامة للدولة، والأخطر أنه ينعش ظاهرة الدولرة في المجتمع ويدفع المدخرين نحو التخلي عن العملة المحلية وحيازة الدولار والذهب والمعادن النفيسة، وهذا يشكل خطراً شديداً على الاقتصاد.
كما أنّ قرار خفض قيمة الجنيه من قبل صانع القرار ليس بالأمر السهل على الإطلاق، فالخفض يشعل النار في أسعار السلع، ويغذي موجة التضخم والغلاء الجامح، وهو ما يعني تدحرج ملايين المصريين نحو دائرة الفقر المدقع والسقوط في هاوية الجوع.
قرار خفض قيمة الجنيه من قبل صانع القرار ليس بالأمر السهل على الإطلاق، فالخفض يشعل النار في أسعار السلع، ويغذي موجة التضخم والغلاء الجامح
في ظل هذه الحيرة، يظل السؤال: هل تواصل الحكومة خفض قيمة الجنيه وفق ضغوط الدائنين والممولين، أم تتوقف وتضرب بالضغوط الخارجية عرض الحائط، وفي حال التوقف، ما هو موقف صندوق النقد الذي اتفقت الحكومة والبنك المركزي معه على تطبيق سعر صرف مرن، أي تركه للعرض والطلب دون تدخل إداري؟
ومن الذي يعوض المليارات الخليجية المحتملة التي لن يتم ضخها في شرايين الاقتصاد المصري في حال عدم تنفيذ شروط السعودية وغيرها من دول مجلس التعاون، ومنها خفض قيمة الجنيه ضمن إصلاحات أخرى تشمل تغيير الطاقم الاقتصادي في الحكومة.
في ملف آخر هو رفع الفائدة، هناك ضغوط على الدولة المصرية لإجراء زيادات في السعر لتحقيق أهداف عدة، منها إقناع أصحاب الأموال الساخنة بالعودة إلى مصر، حيث يحصلون على عوائد ضخمة عن استثماراتهم في أذون الخزانة والسندات.
كما أن رفع الفائدة يحارب التضخم ويحمي العملة المحلية إلى حد ما من التآكل، ويعوض المدخرين الذين تتآكل ودائعهم يوماً بعد يوم بسبب الحصول على فائدة سلبية من البنوك.
لكن قرار رفع الفائدة بالغ الخطورة على الموازنة العامة ومعدل النمو الاقتصادي والأسواق ومناخ الاستثمار وفرص التصدير، حيث يعمق عجز الموازنة ويفاقم أزمة الدين العام، ويرفع كلفة الإنتاج، ويساعد في زيادة تضخم الأسعار، ويدعم انكماش القطاع الخاص.
في ملف الاستدانة، فإن السؤال المطروح هنا: هل تواصل الحكومة المصرية مسلسل التوسع في الاقتراض الخارجي، وبالتالي تغرق البلاد في مزيد من الديون والأعباء المالية، أم تتوقف كلياً؟
وفي حال التوقف عن السداد من أين ستأتي الدولة بالسيولة الدولارية التي تمكنها من تغطية أعباء الديون المستحقة، وهي ضخمة بالمناسبة ولا تتناسب مع موارد الدولة الحالية.
السؤال: هل تواصل الحكومة المصرية مسلسل التوسع في الاقتراض الخارجي، وبالتالي تغرق البلاد في مزيد من الديون والأعباء المالية، أم تتوقف كلياً؟
الأمر الأخير المتوقف بالتعثر بالغ الخطورة على مستقبل الدولة نفسها، فأي تعثر عن سداد قسط مستحق لدائنين خارجيين يدخل البلاد في نفق التعثر المالي وربما الإفلاس.
قس على ذلك ملفات أخرى، منها التفريط في أصول الدولة والإسراع في بيع الشركات العامة والبنوك، صحيح أن عملية البيع توفر سيولة دولارية سريعة، لكنها على المدى البعيد تشكل خطورة على الأمن القومي الاقتصادي المصري وتجفف مصادر الخزانة العامة، وتضغط على سوق الصرف.
فالمستثمرون الأجانب سيحولون أرباحهم الرأسمالية إلى الخارج في نهاية كلّ عام، ولن يستطيع أحد منعهم لأن هذا حقهم، وهو ما يرفع الطلب على الدولار ويضغط على الجنيه.