تجاهلت سوق المال الأميركية إلى درجة كبيرة يوم الأربعاء،ا قتحام أنصار الرئيس دونالد ترامب لمبنى الكونغرس الأميركي، كابيتول هيل، في واشنطن، وارتفعت الأسهم في بورصة نيويورك بنسبة 1.4% أو نحو 437.80 نقطة، ولكن الدولار وأدواته ربما ستدفع لاحقاً ثمن هذه الفوضى. وعلى الرغم من أن حادثة الاقتحام البشعة قصد منها أصحابها دعم احتجاجات الرئيس ترامب ضد الانتخابات التي يزعم أنها سرقت منه، إلا أنها صبت في صالح الرئيس المنتخب جو بايدن، إذ إنها زادت من فجوة الانقسام داخل الحزب الجمهوري، كما أظهرت بوضوح عدم احترام مناصري الحزب الجمهوري لمبادئ الديمقراطية وسيادة القانون. ويلاحظ أن المستثمرين في سوق "وول ستريت" ركزوا أنظارهم، يوم الأربعاء، على نتيجة انتخابات مجلس الشيوخ في ولاية جورجيا التي حسمت الأغلبية في المجلسين التشريعيين في الكونغرس لصالح الحزب الديمقراطي. وبالتالي سيكون لها تأثير كبير على سهولة تمرير التشريعات الجديدة التي تعكف على تنفيذها إدارة الرئيس جو بايدن، خاصة تلك الخاصة بتفكيك شركات التقنية الكبرى إلى وحدات أصغر وتقنين عمل المصارف الاستثمارية وزيادة الضرائب على الأثرياء والصفقات التجارية في البورصات الأميركية. وبالتالي يلاحظ تراجع أسهم شركات التقنية.
ولكن على الصعيد الدولي، ربما سيكون لهذه الحادثة الفوضوية التي تشبه إلى حد بعيد الانقلابات بدول العالم الثالث، تأثير كبير على سمعة وموقع الولايات المتحدة كدولة ديمقراطية مستقرة تقود المعسكر الرأسمالي الليبراليفي العالم. وربما ستؤثر الحادثة الفوضوية على مستقبل الاستثمار في الأصول الدولارية، وتحديداً على الدولار، الذي يواجه ضغوطاً كبرى خلال السنوات الأخيرة ويتراجع سعره في سوق الصرف العالمي، في وقت تتقدم فيه عملات أخرى، من بينها اليورو واليوان الصيني. وعادة ما تقيم قوة العملات بمقياس قوة واستقرار نظامها الاقتصادي والمالي والسياسي والاجتماعي مقارنة بالدول الأخرى ذات العملات المنافسة. ويلاحظ أن عملية اقتحام الكونغرس، التي تمت في واشنطن يوم الأربعاء، أظهرت أن الانقسام السياسي والاجتماعي في أميركا بلغ مرحلة متقدمة من التناقضات التي ربما تتحول في المستقبل إلى عمليات صدام دامية في الشوارع بين أنصار الحزبين، وبالتالي ينتهي الصراع السياسي الديمقراطي المتحضر على منصب الرئاسة الأميركية من التنافس الديمقراطي الحضاري إلى العنف الدامي والقتال في شوارع المدن الأميركية. ومثل هذه الاحتمالات ستكون لها تداعيات سلبية على تدفق الاستثمارات على الأصول الأميركية ووربما تقلل من جاذبيتها، خاصة أن الولايات المتحدة من الدول التي تقتات على الاستدانة الدولية عبر طرح السندات المستمر لتمويل النقص الانفاقي . وتقدر الديون السيادية للولايات المتحدة بنحو 26 ترليون دولار. وتعتمد أميركا في تمويل العجز في ميزانيتها على شراء المستثمرين الأجانب لهذه السندات السيادية.
ويعد الدولار بمركزه القوي في العالم وفي سوق الصرف من أهم أدوات الجذب الاستثماري لأدوات المال الأميركية في الولايات المتحدة. وبالتالي فإن هذه الحادثة ستضعف العملة الأميركية إن لم يكن في الوقت الراهن ولكن على المدى البعيد، إذ ستقود إلى تغيير نظرة المستثمر الأجنبي للاستقرار السياسي والاجتماعي للولايات المتحدة.
وحتى قبل حادثة اقتحام مبنى "الكابيتول هيل"، كان الدولار يواجه شكوكاً حول مستقبل حفاظه على موقعه العالمي. ومنذ صعود القوة التجارية والاقتصادية للصين واستخدامها لأدوات تسوية غير دولارية في الصفقات التجارية، من بينها الصفقات التبادلية، وتأسيسها لبورصات للذهب والنفط والمعادن الأخرى، بات الدولار يواجه منافسة شرسة . وحسب توقعات خبراء، فإن الدولار سيواجه خلال العالم الجاري أكبر اختبار في تاريخه، ليس فقط بسبب جائحة كورونا وتداعياتها، ولكن كذلك بسبب الاختلالات الكبيرة في الميزان التجاري والحساب الجاري والضعف الاقتصادي واحتمال ارتفاع التضخم. ولا يستبعد اقتصاديون ومصرفيون أن يخسر الدولار موقعه كـ"عملة احتياط" لدى البنوك المركزية العالمية، وكعملة مهيمنة على سوق الصرف والتسويات التجارية العالمية خلال السنوات القليلة المقبلة . فالدولار يتراجع بسرعة مخيفة في العام الجديد 2021 مقابل العملات الرئيسية ويسجل انخفاضات تفوق التوقعات التي وضعها له العديد من خبراء المال والنقد. إذ هبط سعر صرف الدولار إلى أدنى مستوياته مقابل كل من الفرنك السويسري واليوان الصيني واليورو والين الياباني والجنيه الإسترليني، كما تراجع كذلك مقابل العملات الناشئة في آسيا وأميركا اللاتينية.
ويتوقع الاقتصادي بجامعة ييل الأميركية، بيتر شيف، أن الدولار ربما سيواجه هزة حقيقية خلال العام الجاري تفقده عرش الهيمنة على سوق الصرف العالمي. وفي ذات الشأن قال الخبير ستيفن روش إن هنالك احتمالا نسبته 50% أن ينهار سعر صرف الدولار خلال العام الجاري. وأشار روش في لقاء مع نشرة "ماركت ووتش"، إلى أن الولايات المتحدة، التي تعاني من ارتفاع في عجز الحساب الجاري ومن تراجع مرعب في معدل الادخار القومي، ربما ستتعرض أيضاً لأزمة انهيار في الدولار أو ربما أزمة ثقة في مستقبل الدولار كـ"خزين للقيمة". وهذه التوقعات تثار من قبل العديد من المصارف التجارية الكبرى، من بينها مجموعة "سيتي غروب" ومصرف "جي بي مورغان" ومصرف "غولدمان ساكس".
ويتوقع بعضها أن يتراجع سعر صرف الدولار بنسبة 20% خلال العام الجاري. ويقول الاقتصادي البروفسور روش إن الدولار مثله مثل أي عملة أخرى، فإن قيمته في سوق الصرف انعكاس للوضع الاقتصادي والمالي والاجتماعي والسياسي للدولة مقارنة بالدول المنافسة. ويلاحظ أن الدولار خسر جزءا من قيمته في أسواق الصرف أمس، الخميس، وربما ستتواصل هذه الخسارة ما لم يتمكن الرئيس المنتخب جو بايدن من السيطرة على أجهزة الحكم وإحداث الاستقرار السياسي والاجتماعي المطلوب، بعد سنوات أحدثت تفاوت الدخول وانقسامات عرقية وطبقية في البلاد.