عاد الجزائريون للوقوف في طوابير للحصول على كيس حليب، بدءاً من السادسة صباحاً من كلّ يوم، مشكلين مشهداً لم يعد يترجم أزمة عابرة قد يمرّ بها أيّ بلد في حاجة لشيء ما، بقدر ما يعكس حجم الفشل الذي ضرب الحكومات المتعاقبة في تسيير ملف بات يؤرق البلاد، وينهك الخزينة العمومية بثقل فاتورة استيراد ما يغطي الطلب الداخلي.
ويأتي ذلك في وقت تزداد فيه معاناة المواطنين من ارتفاع كبير في أسعار السلع الغذائية ونقص حاد في بعضها.
وتعيش الجزائر، منذ ما يربو على شهرٍ، على وقع ندرةٍ حادة في الحليب المجفف، مما أدى إلى اصطفاف طوابير طويلة أمام محال بيع المواد الغذائية، التي وجد أصحابها صعوبة في تلبية حاجة المواطنين.
وفي ظل إصرار وزارتي الزراعة والتجارة على نفي وجود أزمة حليب في الجزائر، يؤكد المنتجون عدم مسؤوليتهم عن النقص الحاد في هذه السلعة.
تقليص حصة المسحوق
يُرجع المنتجون أزمة غياب الحليب في المحلات والأسواق التجارية، إلى تقليص حصة المصانع من مسحوق الحليب الذي يمنحه الديوان الجزائري للمنتجين وفق كميات محددة سابقاً، وبأسعار مدعمة من الخزينة العمومية، وهي الوضعية التي انطلقت قبل 3 سنوات.
وأعاد رئيس الفيدرالية الجزائرية لمنتجي الحليب، عبد الوهاب زياني، الأسباب التي كانت وراء تسجيل ندرة في مادة الحليب، إلى سوء توزيع الديوان المهني للحليب للمسحوق الخاص. وقال إنّ "الديوان المهني للحليب لم يحترم نص الاتفاقية الموقعة مع المنتجين، فالديوان لا يعتمد صيغة التنظيم في ما يتعلق بتوزيع المسحوق، إذ يوزع بكميات هائلة على مستوى الجزائر، في حين ينعدم المسحوق كلية في المناطق التي لا تعرف الديناميكية التي ينشط بها العديد من المنتجين في القطاع الخاص".
وحسب المتحدث نفسه لـ"العربي الجديد"، فإنّ "مثل هذه الأمور أدت بمعظم المنتجين إلى تبني خطة عمل تتماشى وعملية توزيع المسحوق، وهي خطة ترمي في مجملها إلى إنتاج الحليب لمدة أقصاها 5 أيام في الشهر الواحد، واللجوء إلى إغلاق المصانع طوال الأيام المتبقية من الشهر، بينما المنتجون الآخرون النشطون على مستوى محافظة العاصمة مثلاً، لا يقطعون عملية الإنتاج، لأسباب نجهلها".
وقال رئيس الفيدرالية الوطنية لمنتجي الحليب تعبيراً عن استيائه من السياسة التوزيعية من قبل الديوان المهني للحليب حيال المنتجين في القطاع الخاص، إنّ "مهام الديوان لا تعكس حقيقة الأهداف التي كانت وراء مبررات إنشائه، إذ خرج عن دائرة اختصاصه كمكلف بضبط السوق وتوفير مسحوق الحليب إلى الإخلال بالنظام، فآخر المعلومات المتوفرة لدينا تؤكد أنّ حجم توزيع مسحوق الحليب لا يتجاوز الـ5 ألاف طن باعتباره الحجم المتفق عليه منذ مباشرة الديوان في توزيعه، مما انعكس سلباً على أغلبية المنتجين الخاصين، وأدى بـ 80 منتجاً موزعاً عبر 24 محافظة من الوطن، إلى التوقف عن الإنتاج في العديد من المرات".
التوزيع والاستهلاك
واستوردت الحكومة ما قيمته 700 مليون دولار من مسحوق الحليب خلال الأشهر العشرة الأولى من 2021، مقابل 750 مليون دولار خلال الفترة ذاتها من 2020، وتشتري الحكومة الكيلوغرام من مسحوق الحليب بنحو 300 دينار (2.72 دولار) وتبيعه للمصانع بـ 159 ديناراً (1.44 دولار)، وذلك في إطار سياسة دعم الأسعار، في حين تبلغ كمية الاستهلاك 150 لتراً للفرد سنوياً، مقابل 120 لتراً في الدول المتقدمة، أي أنّ كمية الاستهلاك السنوية تقدر بـ 5 مليارات لتر سنوياً، حسب بيانات رسمية.
وفي المقابل، قال مدير التوزيع في ديوان الحليب الجزائري، شفيق عبازي، إنّ "الديوان يوزع حصة 14.450 طناً من الحليب المستورد لمصانع الإنتاج، وتتم العملية بأخذ حجم السوق المغطاة من المصنع حتى لا تكون هناك اختلالات في الأسواق". وأضاف المتحدث نفسه لـ "العربي الجديد" أنّ "الديوان يحرص على توفير المادة الأولية بطريقة دورية دون انقطاع، وكلّ ما يقال يبقى مجرد كلام فارغ، هناك عقود تربطنا مع زبائننا، ولا يمكن ألا نتقيد بها".
وظلت فاتورة استيراد الحليب من بين الفواتير التي تؤرق الحكومة الجزائرية، برفقة القمح والسكر، التي باتت تنهك الخزينة العمومية، ملف سيكون مطروحا بقوة فوق طاولة الرئيس عبد المجيد تبون، الذي جعل من كبح الواردات أولى اهتماماته الاقتصادية.
إلى ذلك، يؤكد الخبير الزراعي فؤاد عبازي، أنّ "دعم الحليب يكلف الخزينة سنوياً ما بين 900 مليون ومليار دولار على الأقل سنويا، ولا يمكن وقف استيراده حالياً، لكن في المقابل، وبالنظر للثروة الحيوانية التي تحوزها الجزائر، والأراضي الشاسعة، يمكن تقليصها إلى النصف". وأضاف لـ"العربي الجديد" أنّ "عدد الأبقار الحلوب في كلّ مزرعة لا يتعدى 7 أبقار بمعدل إنتاج يومي ضعيف، وفي مثل هذه الوضعية لا يمكن لنا الحديث عن الاكتفاء الذاتي من مادة الحليب". ويرى الخبير الزراعي أنّ "الحل يكمن في دعم مزارع الأبقار الحلوب، وتنظيم نقاط تجميع الحليب، مع ضبط خريطة وطنية لتوزيع وحدات الإنتاج".