الجرارات تحاصر أوروبا... والمتطرفون يركبون قطار الزراعة الغاضب

08 فبراير 2024
مزارعون يغلقون الطرق بالجرارات في إقليم كتالونيا الإسباني (مارك أسنسيو/Getty)
+ الخط -

تتسارع احتجاجات المزارعين في دول الاتحاد الأوروبي، وتحاصر الجرارات الغاضبة الطرق الرئيسية والعديد من العواصم في ما يقرب من نصف الدول الأعضاء، بينما تتزايد مخاوف الحكومات من اتساع رقعة التحركات على الرغم من تقديم تنازلات عدة خلال الأيام الأخيرة لتهدئة الأوضاع، حيث تثار اتهامات للأحزاب اليمينية المتطرفة بركوب قطار الزراعة الغاضب لتحقيق مكاسب سياسية مع اقتراب موعد الانتخابات الأوروبية.

فقد شهدت فرنسا وألمانيا وبلجيكا وهولندا وإيطاليا واليونان والبرتغال وأيرلندا وإسبانيا وسويسرا ورومانيا وبولندا ولاتفيا احتجاجات واسعة خلال الأيام الماضية، إذ أغلق المزارعون عدة طرق سريعة، بل وحاصروا عواصم مثل باريس وبرلين وبروكسل وأمستردام بالجرارات، في تعبير عن استيائهم من ارتفاع تكاليف الإنتاج وتدني الدخول وفرض الاتحاد الأوروبي قواعد بيئية تحد من أنشطتهم.

وأثارت انتفاضة الجرارات الآخذة في الاتساع قلق المفوضية الأوروبية التي رضخت لبعض مطالب المزارعين، حيث أوصت رئيسة المفوضية أورسولا فون ديرلاين الكتلة بالتخلي عن خطة لخفض استخدام المبيدات الحشرية في الزراعة استجابة لمطلب المحتجين.

وقالت فون ديرلاين في البرلمان الأوروبي في ستراسبورغ، في فرنسا، الثلاثاء، إن الاقتراح الأصلي الذي طرحته المفوضية الأوروبية كجزء من التحول الأخضر للاتحاد الأوروبي "أصبح رمزاً للاستقطاب"، مشيرة أيضا إلى أن خطة خفض استخدام المبيدات الكيميائية في الاتحاد الأوروبي إلى النصف بحلول نهاية العقد توقفت أيضا في مناقشات البرلمان والمجلس الأوروبي الذي يمثل الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي، وقالت إنها ستطلب من المفوضية "سحب هذا الاقتراح".

لكن قضية المبيدات ليست سوى واحدة من قائمة طويلة من الشكاوى التي أدت إلى حركة احتجاجية جماعية لمزارعي الاتحاد الأوروبي. ويطالب المزارعون في أوروبا بخفض الضريبة على الوقود وتحسين أسعار سلعهم، وإيقاف الضرر الذي يتعرضون له جراء سياسات دعم المزارعين الأوكرانيين عبر السماح بعبور منتجاتهم دول الاتحاد فضلا عن الدعم المالي السخي المقدم لأوكرانيا والذي ينظرون إليه على أنه يقتطع من الضرائب التي يدفعونها.

والغضب الحالي هو امتداد لحالة توتر متواصلة منذ خريف العام الماضي 2023. فركوب آلاف المزارعين الجرارات وقيادتها نحو عواصم أوروبية عدة، أصبح مشهدا يختزل صورة أوسع من تردي الأوضاع المعيشية لعشرات آلاف المزارعين، وذلك إلى جانب اتهام هؤلاء للطبقات السياسية، بمن فيهم ساسة الاتحاد الأوروبي، بأنهم يعمقون أزماتهم من خلال إضعاف قدراتهم التنافسية والإبقاء على بيروقراطية تعيق تحسين أوضاعهم.

وثمة عوامل كثيرة مشتركة تدفع مزارعي أوروبا للاحتجاج. إحدى أهم القضايا التي تحركهم في معظم بلدان القارة العجوز تقريباً تتعلق بفرض ضرائب على الوقود، أو رفع الدعم عن وقود الفلاحة.

وهذا السبب على سبيل المثال حرك جرارات مزارعي ألمانيا بأعداد كبيرة، وهو ما طرحته أصلا إحدى الجمعيات الفلاحية الألمانية الكبرى وهي "ديوتشر باورنرفيرباند".

ورأت الجمعية في بيانات رافقت الاحتجاجات أن "رفع الدعم عن الوقود مصحوباً بشعور عام بعدم التقدير وتزايد المطالب والبيروقراطية المفرطة هو السبب وراء بدء المزارعين الألمان في التظاهر". الأمر عينه ينطبق على مزارعي إيطاليا وفرنسا وغيرهم بسبب ارتفاع تكاليف الوقود.

أضف إلى ذلك أن أوروبا الساعية إلى "التحول الأخضر"، آخذة في الاعتبار الحالة المناخية والبيئية، تبنت من خلال الاتحاد الأوروبي خطوات كبيرة لتقليل استخدام المبيدات الحشرية، بينما يرى المزارعون أنه بدون استخدام المبيدات فلن يكونوا قادرين على الإنتاج كما يجب. كما يشكو المزارعون من تراجع أسعار المواد الغذائية واتفاقيات التجارة الدولية والعديد من العوامل الأخرى التي تلعب دوراً في خلق ضغوط على الزراعة.

غضب من فواتير دعم أوكرانيا

وبعد الغزو الروسي لأوكرانيا قبل عامين (فبراير/ شباط 2022)، سارعت الدول الأوروبية إلى مساعدة البلد لأجل البقاء. شمل ذلك جعل الظروف الأوروبية في مصلحة القطاع الزراعي الأوكراني الضخم، وبما يشبه سياسة تفضيلية.

وأدت سياسات الاتحاد في بروكسل ومشرعيه في ستراسبورغ (مقر البرلمان الأوروبي)، إلى نشوء غضب مكتوم في البدايات، قبل أن يتطور إلى تعبير عن الإحباط في دول مجاورة، مثل بولندا ورومانيا، ودول أخرى.

فمقابل زيادة الضرائب على مزارعي أوروبا راحت بروكسل تخفف الضرائب على السلع الأوكرانية، وبصفة خاصة الحبوب، التي تراجع سعرها العالمي، على الرغم من ارتفاع معدلات التضخم الأوروبية.

وفي بولندا يشعر مربو الدواجن بإرهاق منافسة الأوكرانيين لهم، حيث أصبحت وارداتها المفرطة من أوكرانيا تؤثر على البولنديين وغيرهم من الأوروبيين، الذين يطالبون بإعادة الرسوم على الواردات الأوكرانية كما كانت قبل الحرب.

ونظم المزارعون الأوروبيون في العام الماضي احتجاجات وطنية ضد ما اعتبروه "مزايا غير عادلة للمزارعين الأوكرانيين".

ويبدو أن توسع الإحباط نحو اضطرابات كبيرة بات ينذر بعواقب غير جيدة لساسة الاتحاد الأوروبي والحكومات الوطنية. والتنازلات التي قدمتها المفوضية الأوروبية بشأن إعادة ضبط المسار المناخي للاتحاد الأوروبي لا تعني أن الأمور ذاهبة نحو حل جذري.

ويمكن قراءة الواقع المتردي للقطاع الزراعي الأوروبي من خلال حالة القطاع الفرنسي. وإذا ما أخذنا أرقام الاستطلاعات التي أجريت في فرنسا فإنه على عكس احتجاجات السترات الصفراء مثلا، يقف اليوم نحو 87% من الفرنسيين مع احتجاجات ومطالب المزارعين الذين أغلقوا طرقات حيوية بجراراتهم مطالبين بتخصيص ملايين اليورو على شكل حزم دعم لتعويض الخسائر ووقف الأنظمة البيئية وبدء مواجهة مع مبادئ التجارة الحرة للاتحاد الأوروبي، وفقا لنتائج نشرتها محطة "تي في7" أخيراً.

خلفية هذا التأييد الشعبي تكمن في الحالة الفرنسية نفسها، إذ يحتل القطاع الزراعي مكانة خاصة في هذا المجتمع الذي يُعتبر فيه اللوبي الفلاحي من أقوى جماعات الضغط، إلى جانب أن نقابتي "FNSEA" و"Junes Agriculteurs" تعتبران من أقوى النقابات في البلد. وأظهر تحرك الفلاحين من بلدات صغيرة نحو باريس تعاطفاً شعبياً وصل إلى حد توزيع "الكرواسون" عليهم في طريقهم إلى العاصمة باريس، وفقا للمحطة التلفزيونية "بي أف أم تي في".

بالطبع لا يختلف تراجع مستويات المعيشة لفلاحي فرنسا عن غيرهم، كما في هولندا وألمانيا وبولندا ورومانيا، وبقية القارة، ومع وجود قواسم مشتركة تجمعهم تحت حالة الغضب المستشري، يقدم القطاع الزراعي الفرنسي نموذجاً لتراجع مستويات الحياة بين الفلاحين.

فمساحة مساهمة القطاع الزراعي في الاقتصاد الفرنسي تراجعت إلى نحو 1.6% من الناتج المحلي الإجمالي، على الرغم من أن الزراعة تشكل ما يصل إلى 17% من إجمالي الإنتاج الزراعي الأوروبي، وتعتبر من أكبر منتجي الغذاء الأوروبي.

مع ذلك، تراجعت في السنوات العشر الماضية أعداد المزارع في البلد من 490 ألف مزرعة إلى 390 ألفا، أي بنحو 100 ألف مزرعة خلال 10 سنوات فقط. المشكلة التي تواجه الطبقة السياسية لا يخفف منها تراجع أهمية الزراعة في الاقتصاد الوطني والتوظيف. فالزراعة في فرنسا، كما في باقي دول أوروبا، لها تأثير سياسي وثقافي كبيرين عبر التاريخ، وهي معبر قوي عن حياة الناس في الأرياف واختياراتهم الحزبية، وقوة تأثير جمعياتهم الفلاحية القوية.

الحالة مزرية في الريف الزراعي إلى حد أن 180 مزارعا ينتحرون سنوياً بسبب الضائقة المادية من بين أمور كثيرة. بل إن الأرقام تشير إلى أن المزارعين الفرنسيين أكثر عرضة للانتحار بواقع 31% مقارنة بباقي أفراد الشعب، وفقا لتقرير وزارة الزراعة الفرنسية العام الماضي. وأكد التقرير أنه خلال ثلاثة عقود انخفض صافي الدخل الزراعي في فرنسا بنسبة 40% تقريباً، في حين انخفض عدد المزارع بنسبة 60%.

بالنظر إلى الأرقام أيضا، يبدو واضحا تراجع مستوى معيشة الفلاحين الفرنسيين. فما يكسبه المزارع شهرياً في المتوسط أكثر بقليل من 1400 يورو قبل الضريبة، أي أقل بنحو 300 يورو عن الحد الأدنى للأجور، أما مربو الأغنام والماعز فهم لا يتلقون أكثر من 680 يورو في المتوسط، وهو ما يتطلب أن يشتغل الزوج أو الزوجة في عمل آخر لأجل أن تمضي الأمور في حدها الأدنى.

وعليه، يبدو أن سنوات من تراكم الغضب أطلقت عنانه خلال الأسابيع الماضية، هذا رغم أن متوسط دخل الزراعة زاد قليلا في السنوات الأخيرة. وبحسب ما يوضح لوسيان بورجوا، الخبير الاقتصادي في أكاديمية الزراعة الفرنسية، لقناة "فرانس إنفو"، فإنه "في عامي 2021 و2022 زادت الأجور، وكانت نسبة الأرباح في 2022 أعلى بـ50% مما كانت عليه في 2010".

لكن بورجوا توقع أن تشهد نتائج 2023 تراجعا بسبب ارتفاع تكاليف الإنتاج وانخفاض أسعار المواد الغذائية. وعمليا يذهب جزء لا بأس به من مداخيل الفلاحين نحو نفقات كبيرة على الآلات وصيانة ماكينات وأجهزة الإنتاج الخاصة بمزارعهم. ويعيش 18% من المزارعين الفرنسيين تحت خط الفقر، بحسب أرقام مكتب الإحصاء الفرنسي. وبالتالي فإن الدخل المتزايد يتم توزيعه بشكل غير متساو. ويختلط الغضب بشأن الدخل المنخفض مع عدم الرضا عن المتطلبات البيئية ومعايير الاتحاد الأوروبي.

اليمين المتطرف يركب قطار الزراعة الغاضب

ويبدو أن احتجاجات المزارعين في أنحاء أوروبا لا تقلق السلطات السياسية والأمنية فحسب، وإنما أيضا الأحزاب السياسية في الوسط ويسار الوسط القلقة من استغلال اليمين المتطرف الاحتجاجات لكسب مساحات سياسية أكبر، وذلك قبيل أقل من 4 أشهر على انتخابات البرلمان الأوروبي (يونيو/ حزيران 2024).

واستشعرت رئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون ديرلاين مخاطر ركوب معسكرات اليمين القومي المتشدد والشعبويين في أكثر من مكان أوروبي لانتفاضة الفلاحين، فدعت إلى "حوار استراتيجي" مع المنظمات الزراعية ومنظمات المجتمع المدني، وأشارت إلى أن الزراعة تلعب دوراً اقتصادياً مهماً، فالأمر يتعلق بالأمن الغذائي.

وإذا ما أخذنا بتحليل المركز البحثي (المجلس الأوروبي للعلاقات الخارجية)، في يناير/ كانون الثاني الماضي، فإن الأحزاب اليمينية القومية مرشحة للحصول على تصويت قوي في انتخابات البرلمان الأوروبي في يونيو المقبل.

ووفقا للمشارك في وضع التحليل بالمركز البحثي كيفن كانينغهام، فقد "أصبح غضب المزارعين قضية كبيرة بالنسبة لليمين المتطرف في جميع أنحاء أوروبا"، وفق ما نقل عنه موقع "بوليتيكو" الأميركي.

وبحسب المجلس، فإن "الأحزاب "الشعبوية" في طريقها للفوز في الانتخابات المقبلة، في حين أن الأحزاب الموجودة على يسار الوسط ستخسر مقاعدها وبالتالي نفوذها أيضاً. وإذا صحت التوقعات الحالية، فإن الأحزاب اليمينية المنتقدة لسياسة "التحول الأخضر"، والتي ترغب في انتهاج سياسة أكثر صرامة للهجرة، ستصبح أكبر الأحزاب في تسع من الدول الأعضاء، بما في ذلك بولندا والنمسا وجمهورية التشيك والمجر وألمانيا وهولندا فرنسا.

ويؤكد مركز "ثينك تانك يوروب"، على لسان كبير محلليه أندرس أوفرفاد، أن التقدم الذي يحرزه اليمين المتطرف علامة واضحة على وجود استياء متزايد في جميع أنحاء أوروبا تجاه التحول الأخضر من بين أمور أخرى.

ويتوقع أن تستفيد الأحزاب اليمينية المتشددة في تحقيق نتائج على خلفية الأزمة الحالية واستغلالها في عدد واسع من الدول الأخرى، بما في ذلك السويد وإسبانيا والبرتغال والدنمارك.

فحزب "البديل لأجل ألمانيا" اليميني المتشدد، و"التجمع الوطني" الفرنسي، يظهران أكبر قدر من استغلال احتجاجات وغضب الفلاحين للظهور كجزء من حالة يمينية متطرفة أكثر حرصا على مصالح الأوروبيين. وذلك ما يراقبه بخوف ساسة بروكسل الذين سيغادرون مناصبهم في حال خسرت كتلهم الأغلبية في البرلمان الأوروبي القادم.

المساهمون