التيه المصري بملف القمح بين كندا وكازاخستان

27 أكتوبر 2014
مصر تدرس استئجار أراض بكازاخستان لصالحها (أرشيف/getty)
+ الخط -

في النصف الثاني من التسعينيات طرح وزير التموين بمصر آنذاك د. حسن خضر، حل استئجار أراض بكندا لزراعتها بالقمح، من أجل تغطية العجز المستمر في احتياجات مصر من القمح، واعتمادها على الاستيراد، وقد قوبل هذا الطرح بهجوم شديد من الجميع، سواء من خلال عدم جدواه الاقتصادية في ضوء تكلفة النقل، أو أن الأولى إن كانت الفكرة جديرة بالتطبيق أن نتوجه للسودان، ليتحقق أكثر من هدف، الأول تعميق العلاقات الاقتصادية بالسودان في ضوء أبعاد استراتيجية بين البلدين، أو تقليل تكلفة النقل.

إلا أن الأمر قد عاد مرة أخرى بعد مرور نحو عقدين من الزمن، حيث صرح منير فخري وزير التجارة والصناعة المصري أثناء زيارته لكازاخستان، بإمكانية دراسة استئجار أراض بكازاخستان لصالح مصر وزراعتها بالقمح، لتلبية احتياجات السوق المصري من القمح. ولا ندري أهو تقابل أفكار، أم تأكيد لنهج اقتصادي للبقاء على سياسات اقتصادية لحكومة عبيد ونظيف في عهد مبارك؟

في حكومة الدكتور هشام قنديل، استهدف وزير التموين د. باسم عودة تحقيق الاكتفاء الذاتي من القمح على مدار خمس أو أربع سنوات، وبالفعل في العام الذي تولى فيه الوزارة انخفضت واردات مصر من القمح بنحو مليون طن من القمح، وكان مشروع الصوامع يسير بخطى جيدة من خلال ترتيب تمويل مع البنك الإسلامي للتنمية، من خلال آلية الصكوك الإسلامية. إلا أن المشروع أجهض ضمن مشروعات كثيرة كانت تستهدف تحقيق تنمية تعتمد على الذات.

بوابة الفساد

منذ سنوات ووسائل الإعلام تنشر ممارسات الفساد في مجال استيراد القمح، مثل استيراد أنواع رديئة لا تصلح للاستخدام الأدمي، أو التنازل عن المواصفات المطلوبة كحد أدنى للأنواع الجيدة، وفي دوامة الروتين المصري، كان يسمح في النهاية بصلاحية هذه الشحنات رغم وضوح كميات الحشرات الكثيرة بها، وفي أسوأ تقدير كان يسمح بهذه الشحنات كعلف للحيوانات.

أما البوابة الأكثر فسادًا فكانت من خلال العمولات والمبالغة في أسعار التوريد، وبخاصة بعدما سُمح للقطاع الخاص باستيراد القمح لصالح الحكومة المصرية، ولا يعرف إلى الآن الحكمة من السماح للقطاع الخاص بالاستيراد على الرغم من وجود هيئة السلع التموينية، وتوافر المتخصصين بها للقيام بعملية الاستيراد.

وقد تُرفع شماعة التمويل في هذا المضمار بزعم أن القطاع الخاص يقوم بتدبير التمويل اللازم من العملة الصعبة التي تتطلبها عملية استيراد القمح، ولكن حقيقة الأمر أن القطاع الخاص ظل لفترات طويلة ولا يزال يعتمد على التمويل المصرفي وليس موارده الذاتية. مما لا يجعلنا نجد فارقًا بين اقتراض الحكومة والقطاع الخاص من الجهاز المصرفي، وبخاصة أن الحكومة قد فتحت الباب على مصراعيه في الاقتراض من الجهاز المصرفي، ليتجاوز الدين العام المحلي حاجز 1.8 تريليون جنيه، ومن باب أولى الاقتراض لتمويل عمليات استيراد القمح بغرض تقليل التكلفة ومواجهة ممارسات الفساد من القطاع الخاص. ولا يعني هذا أن المسؤولين بهيئة السلع التموينية إذا ما سُمح لهم باستيراد احتياجات مصر من القمح، أنهم بعيدون عن ممارسات الفساد، ولكن فساد هؤلاء يمكن أن يقابل بدور فعال من قبل الأجهزة الرقابية.

إشكالية الاكتفاء الذاتي

على الرغم من أن قضية الاكتفاء الذاتي من القمح تمثل واحدة من القضايا التي تتعلق بالأمن الغذائي في مصر، وهي قضية استراتيجية، حيث تعتبر مصر المستورد الأول للقمح على مستوى العالم منذ عقود، ويصل حجم الاستيراد لنحو 6.5 مليون طن سنويًا، أي ما يمثل 50% من احتياجات مصر من القمح.

في ضوء بعد التحديات يستبعد الخبراء تحقيق اكتفاء ذاتي بنسبة 100% من القمح، بسبب حصة مصر من المياه، وكذلك التركيب المحصولي للزراعة المصرية، حيث يجب مراعاة تحقيق توازن بين احتياجات الإنسان والحيوان من الغذاء في آن واحد، فالتوسع في زراعة القمح سيكون على حساب محصول البرسيم الذي يمثل عماد غذاء الحيوان في مصر.

لكن الواقع يذهب إلى أن التصرف في حصة مصر من المياه يمكن إدارته من خلال السياسات التحفيزية للفلاحين، فعلى الرغم من أن محصول الأرز يستهلك كميات أكبر من المياه، مقارنة بمحصول القمح، إلا أن الفلاحين يقبلون على زراعته على الرغم من تحرير المخالفات الخاصة بتجاوز المساحات المسموح بها، وكذلك العقبات التي يواجهونها في تسويق محصول الأرز، ولكنهم يراهنوان على العائد المجزي من زراعة الأرز، الذي يمكن من خلاله تحقيق أرباح بعد دفع هذه المخالفات، ومواجهة مخاطر التسويق. فما المانع أن يوجه هؤلاء الفلاحون عبر سياسات تحفيزية سعرية بزراعة القمح بدلًا من الأرز، وقد جربت السياسات التحفيزية في مجال القمح وكان لها دور إيجابي منذ حكومة د. عصام شرف الثانية وكذلك في حكومة د. هشام قنديل.

إن التفكير في قضية الاكتفاء الذاتي على أن تكون بنسبة 100% أو لا تكون، لا تتناسب مع الواقع وبخاصة في الأجل القصير، فمن الممكن أن يتم تحقيق اكتفاء ذاتي من القمح بحدود 65 %، وعلى أن تكون هناك كميات خلط للقمح بمحصول الذرة بنسبة 20 %، بحيث لا تخل هذه النسبة بمواصفات إنتاج الخبز، وبذلك يتقلص احتياج مصر إلى نحو 15% فقط من احتياجاتها من القمح، بدلًا من الواقع الحالي الذي تصل فيه كميات الاستيراد لنسبة 50% من احتياجات مصر من القمح، وبذلك يمكن أخذ بعد المياه والتوزان في التركيب المحصولي في الاعتبار.

الاستئجار الأنفع

إذا كان ولا بد من أن يدار ملف تدبير احتياجات مصر من القمح من خلال استئجار آراض في الخارج، فلمَ لا نفكر في أفريقيا، وبخاصة في منطقة دول حوض النيل، وهي الأقرب، والأوفر، والأكثر عائدًا لمصر من الناحية الاستراتيجية، في ظل تراجع العلاقات الاقتصادية لمصر مع دول حوض النيل.

وكذلك في ظل الصراع الدائر الآن على مياه النيل، وسد النهضة الذي تقيمه اثيوبيا حاليًا، وسدود أخرى تفكر في اقامتها دول أخرى من منطقة حوض النيل، بما سيؤدي إلى تقليص حصة مصر من مياه النيل لا محالة.

إن التصرف في إطار المصالح المتبادلة هو الباب الأسرع لخلق علاقات اقتصادية جديدة مع دول حوض النيل، إن حجم التبادل التجاري لمصر مع دول حوض النيل لا يتجاوز مليار دولار سنويًا، تستحوذ السودان وكينيا منه على نحو 80%، والـ 20% الباقية موزعة على نحو 8 دول من منطقة حوض النيل، مما يعكس خللاً استراتيجياً في علاقات مصر الاقتصادية مع هذه الدول.

إن التوجه لدول حوض النيل على وجه التحديد بالاستثمار الزراعي سلكته دول عربية وخليجية منذ فترة، وتقوم بزراعة احتياجاتها من السلع الزراعية هناك، وكذلك تستثمر في سلع زراعية تصديرية، ومن هنا فمصر أولى بهذا المسلك، فخلق مصالح اقتصادية مع دول حوض النيل، هو الاستراتيجية التي سلمت بها معظم الدراسات المتخصصة في هذا الشأن.

وفي الختام يخشى أن يكون تصريح وزير التجارة والصناعة فخري عبدالنور، لمجرد الاستهلاك السياسي، والدعاية الإعلامية لزيارته لكازاخستان، وإلا فالمؤشرات واضحة منذ سنوات، بأن السوق المصرية لاستيراد القمح هي حكر على الدول الرأسمالية الكبرى مثل أميركا وفرنسا، ولا مانع من وجود حصص صغيرة لاستراليا، أو روسيا إن أمكن.

فمتى تمتلك مصر قرارها في ملف القمح، الذي يمثل صداعاً في رأس كل من يدير أمر هذا البلد، على الرغم من توافر الحلول المحلية بشكل يتناسب مع امكانيات مصر وظروفها المالية، وكذلك المصادر الإقليمية في إطار السودان ودول حوض النيل، بما يمثل تأكيداً على البعد والعمق الاستراتيجي لمصر في قارة أفريقيا.

المساهمون