يضاعف استمرار الاقتتال الدائر في العاصمة السودانية الخرطوم بين الجيش وقوات الدعم السريع، رغم توقيع إعلان جدة، المخاوف الدولية من انزلاق السودان إلى حرب أهلية، ما قد يقضي على مستقبل الاستثمارات التي دشّنتها دول الخليج العربية في البلد الذي أنهكه عدم الاستقرار السياسي على مدى عقود.
كما يهدد استمرار الاقتتال الاستثمارات الأجنبية، وينذر بتراجع معدلات النمو، خاصة بعد تضرر المطارات والموانئ ومحطات الكهرباء والمياه والبنية التحتية بشكل عام، إضافة إلى دخول منشآت اقتصادية حساسة ضمن أهداف الاقتتال، ومنها البنك المركزي، الذي تعرض لحريق هائل بعد قصفه في نهاية إبريل/نيسان الماضي.
وتتصدر السعودية عدد مشروعات الاستثمارات الأجنبية في السودان بأكثر من 512 مشروعاً، تبلغ قيمتها نحو 35.8 مليار دولار، لتصبح أكبر شريك استثماري هناك، بحسب بيانات البلاد الرسمية، تليها الإمارات بـ 115 مشروعاً، تبلغ قيمتها نحو 7 مليارات دولار. (الدولار = 601.5 جنيه).
وتركزت أغلب مشروعات الاستثمار السعودي والإمارات في السودان على القطاع الزراعي، غير أن أبوظبي أبدت اهتماما عام 2022 بقطاع الموانئ، بإنشاء ميناء جديد على البحر الأحمر بتكلفة 4 مليارات دولار، في إطار مشروع مشترك بين مجموعة دال وموانئ أبوظبي، وفقا لما أوردته وكالة "رويترز".
وبينما تؤشر تداعيات الاقتتال إلى عوامل طاردة للاستثمار الأجنبي، تؤشر حالة التنافس الاقتصادي بين السعودية والإمارات مؤخرا إلى عوامل في الاتجاه المعاكس، خاصة في ظل امتلاك السودان ثروات طبيعية كبيرة.
استثمارات الخليج في السودان متوقفة حتى إشعار آخر
ويرى الخبير الاقتصادي محمد الناير أن التوقعات المتداولة بشأن تراجع الاستثمارات الخليجية في السودان سابقة لأوانها، على الرغم من الاقتتال الدائر في البلاد بين قوات الجيش النظامي وقوات الدعم السريع، خاصة أن تدفق تلك الاستثمارات المحتملة لم يكن يلوح بالأفق قبل الاقتتال، حسب ما صرح لـ"العربي الجديد".
فتدفق الاستثمارات الخليجية، لا سيما السعودية والإماراتية منها، متوقف أصلا، باستثناء عرض إماراتي للاستثمار في موانئ مطلة على البحر الأحمر، يلقى اعتراضا سياسيا وشعبيا على تمريره من دون عطاء دولي، أما الاستثمارات القائمة بالفعل، فلا يمكنها التخارج في مثل الظرف الحالي، مع دخول الاقتتال أسبوعه السادس، بحسب الناير.
كما أن المقومات الطبيعية للسودان ستظل مستمرة بعد انتهاء أزمة الاقتتال، وبالتالي ستظل مغريات الاستثمار قائمة، وإن ظلت عوامل عدم الاستقرار السياسي موجودة، حسب تقدير الناير، مشيرا إلى أن ظرف عدم الاستقرار السياسي ظل قائما طوال سنوات طويلة في السودان.
ومن أهم هذه الموارد، الأراضي الخصبة الصالحة للزراعة، والتي تبلع مساحتها نحو 85 مليون هكتارا، لم يُستغل منها سوى 20% فقط، بحسب الناير، مشيرا إلى أن في السودان محاصيل نادرة، وذات سوق دولية كبيرة، مثل الصمغ العربي، الذي لا يوجد مثيل لخصائصه في العالم.
ويضيف الخبير الاقتصادي أن السودان يتمتع بتنوع مصادر المياه في ظل معاناة أغلب دول العالم من شح هذه المصادر، إذ يملك حصته من مياه النيل، والتي تقدر بـ18.6 مليار متر مكعب، لا يستغل منها سوى 12 مليار متر مكعب، إضافة إلى المياه الجوفية المتجددة ومياه الأمطار التي تهطل على البلاد بكميات كبيرة.
ويلفت الناير إلى أن أرض السودان تضم في باطنها أكثر من 10 معادن، على رأسها الذهب، كما يملك ثروة حيوانية تتجاوز 120 مليون رأس، ما يجعله مصنفا ضمن كبريات دول العالم في هذا المجال.
ولو لم يتملك السودان تلك الموارد وامتلك فقط موقعه الاستراتيجي، كرابط بين المنطقتين العربية والأفريقية وكبلد ذي ساحل على البحر الأحمر يبلغ طوله 750 كيلومترا، لكفاه ذلك لتحقيق تنمية اقتصادية مستدامة، حسب تقدير الناير، ولذا يرجح أن يستمر السودان جاذبا لاستثمارات السعودية والإمارات تحديدا، في ظل مؤشرات التنافس الأخيرة بين البلدين الخليجيين.
لكن تدفق هذه الاستثمارات يحتاج إلى استقرار سياسي وأمني، وهو ما يتوقع الناير حدوثه متى وضعت الحرب أوزارها في السودان وأصبحت للبلاد قوات مسلحة موحدة، بما يمثل رسالة حماية وطمأنة لأي جهة تريد الاستثمار في البلاد.
ويرى الناير أن سبيل الوصول إلى هذا الاستقرار الاقتصادي "سياسي بامتياز"، ويتمثل في إدارة فترة انتقالية قصيرة، من عام إلى عام ونصف عام على أقصى تقدير، من خلال كفاءات تكنوقراطية بعيدة عن أي انتماءات حزبية، على أن تنتقل السلطة لاحقا إلى حكومة مدنية بعد إجراء انتخابات حرة ونزيهة.
فشل تاريخي للاستثمار في السودان بوصفه "سلة غذاء"
وينسجم تقدير الناير مع آخر أورده تقرير لمركز دراسات الشرق الأوسط بجامعة أكسفورد، مفاده أن دول الخليج العربية تحاول منذ السبعينيات الاستثمار بالسودان كسلة غذاء عربية، لكن مشروعاتها كانت تفشل بسبب الاضطرابات السياسية والصراعات المسلحة في البلاد.
ويضيف التقرير أن دول الخليج تفقد اهتمامها بهذا النوع من المشروعات، وباتت تعتمد، بشكل رئيس، على استيراد الغذاء من دول أخرى أكثر موثوقية، مثل البرازيل وروسيا وأوكرانيا.
ويستنتج التقرير أن استثمارات دول الخليج في السودان لن تتأثر كثيرا بالصراع الحالي، لأنها لم تكن كبيرة أو مستقرة من البداية.