بات البنك المركزي المصري قريباً من تخفيض جديد لقيمة الجنيه، خلال أسبوعين، في إطار موجة رابعة لتعويم العملة المحلية خلال عام واحد، قد تهبط بها سريعاً إلى 35 جنيهاً مقابل الدولار، حسب توقعات بالأوساط الاقتصادية وبنوك عالمية.
ويشير مراقبون إلى أن الحكومة تبدو عاجزة عن وقف نزيف العملة المحلية، مع استمرار الأزمة المالية الطاحنة، وشح الدولار، ودوامة الديون الخارجية، وبطء وصول الاستثمارات الخارجية.
وتنتظر الدول الضامنة قبل تمويل الموازنة، اتفاقات الدولة مع صندوق النقد، واستقرار الجنيه عند أقصى نقطة هبوط، لتبدأ في ضخ الأموال المشروطة بالحصول على أصول مقابل الاستثمار، ومتابعة جدارة توظيف الأموال التي تقدمها للحكومة، لإنقاذ الاقتصاد من أزمته العميقة.
تأتي توقعات الاقتصاديين، عقب صدور تقرير لمحللين استراتيجيين لدى بنك "سوسيتيه جنرال" الفرنسي، منذ يومين يؤكد أن الجنيه سيتراجع بنحو 10%، قبل نهاية شهر مارس/ آذار المقبل، بضغط من تزايد الديون أدى إلى حاجة الدولة إلى عملة أرخص، مع تعاظم عجز الحساب الجاري والنقص الحاد في الدولار.
وتوقع "سوسيتيه جنرال" أن تنخفض قيمة الجنيه مرة أخرى في المستقبل القريب، مرجحاً أن يُنهي الربع الحالي دون مستوياته الحالية بنحو 10%، وقال خبراء استراتيجيون بالبنك إن مصر ستحتاج إلى عملة أرخص، نظراً لكبر حجم عجز الحساب الجاري ونقص الدولار.
وأضاف البنك الفرنسي، في تقريرٍ له، أنه على الرغم من فقدان الجنيه 50% من قيمته خلال عام، بعد خفض قيمته ثلاث مرات، فإن العملة لم تصل بعد إلى سعر صرف متوازن قصير الأجل، مؤكداً أن الافتقار إلى إجراءات تشديد السياسة النقدية الحاسمة من قبل البنك المركزي المصري يثير تساؤلات حول مصداقية التزامه بتنفيذ تعهده باستهداف التضخم.
وتابع "تظل أسعار الفائدة الحقيقية سالبة بناءً على القرارات التي جرى اتخاذها أو تلك التي تخطط لتنفيذها، وأنه مع عودة تدفقات المحافظ، سيحتاج البنك المركزي إلى إعطاء الأولوية لإعادة بناء احتياطياته من العملات الأجنبية، وهو ما سيضع ضغوطاً إضافية على الجنيه".
التوقعات نفسها تؤكدها وكالة بلومبيرغ الأميركية التي أكدت أن دول الخليج تترقب وضوح الرؤية على نحو أكبر بشأن الجنيه، وإثبات أن مصر تجري إصلاحات اقتصادية عميقة قبل ضخ استثمارات بمليارات الدولارات.
ونقلت "بلومبيرغ" عن أشخاص، لم تسمهم، أن دول الخليج تريد أيضاً اتخاذ البلاد خطوات جادة بشأن الإصلاحات التي وعدت بها صندوق النقد الدولي، لتأمين الحصول على حزمة إنقاذ بقيمة 3 مليارات دولار.
وأشارت الوكالة إلى مخاوف المستثمرين الخليجيين من عدم التزام الحكومة بالضوابط المشروطة من قبل صندوق النقد، والتي تشمل الحد من مشاركة الدولة والجيش في الاقتصاد، وضمان مزيد من الشفافية حول الأوضاع المالية للشركات المملوكة للدولة والشركات غير المدرجة في البورصة.
ويبدو أن توقعات المؤسسات العالمية لم تفاجئ محللين مصريين، فوفقاً للخبير الاقتصادي، عبد النبي عبد المطلب، فإن التعويم الرابع أصبح أمراً مؤكداً خلال الأيام المقبلة، وفسر ذلك لـ"العربي الجديد" قائلاً إن التعويم أصبح الحل الوحيد أمام الحكومة لإثبات حسن نواياها عن مواجهة أزمة العملة، والتزامها بالاتفاق الثالث مع صندوق النقد الدولي الذي وقعته في ديسمبر/ كانون الأول الماضي، للحصول على 3 مليارات دولار، ودعم برامجها لإعادة هيكلة اقتصاد الدولة.
وأشار عبد المطلب إلى تشدد صندوق النقد الدولي في مراجعة الأداء المالي للحكومة، قائلاً: "لديهم شكوك في جدية التزامها ببرنامج خصخصة الشركات العامة، مع وجود تباطؤ خليجي في عمليات الشراء لتلك الأصول، وصعوبة جذب استثمار أجنبي مباشر، في ظل تزايد الفائدة على الدولار دولياً، وتطورات الحرب الروسية في أوكرانيا، وحالة عدم اليقين الجيوسياسي عالمياً، فأصبح الحل الوحيد أمام الحكومة هو إثبات جديتها في إدارة ملف سعر الصرف".
ولفت الخبير الاقتصادي إلى ضغوط أخرى على العملة المحلية منها نقص الدولار المطلوب للموردين، وعدم توافره بالبنوك للمتعاملين بالبيع والشراء، وفقاً للعرض والطلب، مع تراجع مداخيل البنوك من العملة الصعبة، وتراجع ملحوظ في تحويلات المصريين من الخارج، وانتشار مجموعات تتولى المضاربة على سعر الجنيه، مقابل عملات صعبة، لتمويل صفقات الموردين خلال المرحلة المقبلة.
ويعتبر عبد المطلب إحجام جهات خليجية عن سرعة إتمام صفقات بقيمة 14 مليار دولار لشراء الشركات التي عرضتها الحكومة في إطار وثيقة الملكية العامة للدولة، بأنها تنتظر التنسيق مع صندوق النقد الدولي الذي تراجع بعثته تعهدات الحكومة، وتنتهي من المراجعة الأولى قبل نهاية مارس المقبل.
في مقابل توقعات "سوسيتيه جنرال" بحدوث تراجع في قيمة الجنيه المصري بنسبة 10% قبل شهر مارس يرى خبير أسواق المال وائل النحاس عدم زيادة الدولار خلال مارس المقبل عن 32 جنيهاً مقابل الدولار، مشيراً إلى أن التحليل الفني يظهر استمرار الهوة بين السعر السائد حالياً للدولار مقابل الجنيه، عند 30.50 جنيهاً بالمتوسط، بينما بدأ يزحف تدريجياً نحو نقطة هبوطه من 32.17 جنيهاً مقابل الدولار الشهر الماضي.
وقال النحاس لـ "العربي الجديد" إنه رغم بقاء ساعات على انتهاء شهر فبراير/ شباط فإن الأرقام تظهر عدم تغطية الحكومة لفجوة مالية قيمتها 720 مليون دولار، مع حاجتها إلى تلبية التزامات مالية لسداد ديون بقيمة 3 مليارات و148 مليون دولار في مارس المقبل، و5 مليارات و400 مليون دولار في إبريل/ نيسان، ومع عدم توافر تلك المبالغ المتوقعة، سيدفع ذلك إلى تراجع جديد في قيمة الجنيه. ويشير النحاس إلى أن القفزة في قيمة الدولار، ستصل به إلى نقطة الهبوط عند 32.17 جنيهاً، متأثرة بضغوط التزامات الحكومة.
ويؤكد أن التراجع في قيمة الجنيه بعيداً عن نقطة الهبوط، أمر صعب تحقيقه في ظل حالة الركود، التي تعاني منها الأسواق، وخاصة سوق الذهب، مع انخفاض الطلب على الدولار بالسوق السوداء التي كانت تنشطها السحوبات التي تجريها أطراف عدة لصالح الحكومة والبنوك.
ويوضح أنه في حالة تراجع أسواق السلع الأساسية خلال الأيام المقبلة، مع حلول موعد حصد نتائج دورة التصنيع وإنتاج الدواجن، فسيعطي ذلك مؤشراً على إمكانية المحافظة على استقرار الأسعار، وهدوء الطلب على الدولار في السوق السوداء، بما يعني عدم تدحرج الجنيه بالنسبة التي ذكرها بنك "سوسيتيه جنرال".
ووفق خبير الاستثمار والتمويل، فإن عدم موافقة الحكومة على بيع المصرف المتحد وشركات أخرى لأطراف خليجية، لعدم موافقتها على تسعير الجنيه للصفقة في سعره الهابط، يبين امتلاكها أدوات كافية لتدبير الدولار بطرق لا نعلمها.
ويذكر النحاس أن التوقعات الفرنسية الخاصة بفقدان الجنيه 10% ربما تستند إلى معلومات غير متوافرة لدى المحللين المحليين جعلتهم يتنبؤون بتراجع قيمة الجنيه بهذه النسبة المرتفعة.
ويشير خبراء ماليون إلى أن سعر الدولار يُتداول بين كبار سماسرة التمويل في أسواق خارج مصر، بقيمة 45 جنيهاً، واليورو 48 جنيهاً، مع وجود مؤشرات عن تراجع قيمة العملة محلياً، في ظل توجه الحكومة إلى مزيد من التشدد النقدي وزيادة سعر الفائدة على الجنيه، وقبولها رفع مستوى التضخم، بما يضغط على الجنيه، ويرفع الأسعار إلى معدلات تزيد عن المستوى القياسي الذي بلغته الشهر الماضي إلى 31.5%.
ومع استمرار أزمة العملة في مصر، لا تستبعد مصادر حكومية اللجوء للاقتراض الخارجي مجدداً.
وقال محمد معيط وزير المالية، إنه من غير المستبعد طرح صكوك سيادية أخرى هذا العام، بعد طرح صكوك في بورصة لندن الأسبوع الماضي، ضمن برنامج قيمته 5 مليارات دولار. وأضاف في تصريحات أمس أن طرح بقية البرنامج، والبالغة 3.5 مليارات دولار قد يستغرق من 3 إلى 4 سنوات.
وطرحت مصر أول صكوك إسلامية لها في الأسواق الدولية الاثنين الماضي، وحصلت على سعر فائدة استرشادي مرتفع عند 11.6% قبل أن يتراجع السعر الفعلي إلى 10.875%، وسط إقبال غطى القيمة المطلوبة بأكثر من 4 مرات، وعرض 250 مستثمراً شراء الصكوك، رغم ارتفاع تكلفة مبادلة المخاطر الائتمانية لنحو 9.35%.
وتأتي تصريحات وزير المالية محمد معيط حول رغبة الحكومة في إصدار مزيد من الصكوك السيادية، خلال العام الحالي، في إطار برنامج يستهدف الحصول على 5 مليارات دولار، وإسراع الحكومة في طرح سندات "الباندا" باليوان الصيني بقيمة 500 مليون دولار في الربع الثاني من العام الحالي، معززة مخاوف من استمرار شح الدولار، وتعاظم القروض على الخزانة المصرية، وضغوط الفوائد والتزامات الدولة شهرياً لخدمة الدين العام.
وعزا محللون تراجع الثقة في الجنيه إلى حاجة البنك المركزي إلى تعزيز إيراداته من العملة الصعبة، لتوفير السلع الأساسية التي تأتي من الخارج، وعلى رأسها المواد الغذائية والوقود واحتياجات المصانع والمواد الخام وقطع الغيار، بما سيؤدي إلى حدوث خفض حاد آخر في قيمة العملة على المدى القريب.
وتواجه الحكومة أسوأ أزمة سيولة في النقد الأجنبي، وفجوة تمويلية تبلغ 17 مليار دولار، دفعت مؤسسة "موديز" إلى تخفيض تصنيف مصر الائتماني إلى ما دون الدرجة الاستثمارية، من B2 إلى B3، ووضعها في مرتبة المقترض غير المرغوب فيه، وهو ما أدى إلى مزيد من الضغط على الجنيه الذي أصبح خامس أسوأ العملات أداء في عام 2022، وسط ارتفاع معدلات التضخم في أسعار المواد الغذائية والأساسية، ومستلزمات الإنتاج، والسلع والخدمات بالأسواق.
وتسعى الحكومة إلى لملمة الوضع المالي المتدهور بطرح 32 شركة مملوكة للدولة لمستثمر رئيسي، والاكتتاب في البورصة خلال العام الحالي.