البنك المركزي المصري... هل غيّر خطته؟

05 أكتوبر 2022
التجار في مصر يلجأون للسوق الموازي لشراء العملات الصعبة (getty)
+ الخط -

على مدار الأسابيع الأخيرة توقفت البنوك في مصر عن بيع العملة الأجنبية للعملاء إلا بقيود صارمة، فلجأ الكثير من التجار للسوق الموازية، من أجل الحصول على الدولار المطلوب لاستيراد بضائعهم والاستمرار في تقديم منتجاتهم وخدماتهم، وتم تنفيذ عمليات بمبالغ كبيرة، بأسعار تفوق السعر المعلن لدى البنوك بنسب تتجاوز عشرة بالمائة، وهو ما أوحى للكثيرين بأن البنك المركزي في طريقه لإجراء خفض جديد في قيمة العملة المصرية.

وعلى مدار الشهور الماضية، وتحديداً بعد الخفض الرسمي الأخير الذي تجاوز نسبة 15%، وتم تنفيذه قبيل نهاية الربع الأول من العام، زادت التكهنات بوجود ضغوط من صندوق النقد الدولي على الحكومة المصرية، لتخفيض قيمة الجنيه، في سبيل الحصول على موافقة على قرض جديد، تتمكن من خلاله الحكومة المصرية من الوفاء بالتزاماتها بالعملة الأجنبية، وفي نفس الوقت تستعيد جزءاً من ثقة الأسواق التي فقدتها مع بداية العام الحالي.
وعزّز تلك التكهنات صدور تصريحات من أعضاء في الحكومة المصرية تؤكد تقبلهم "مرونة أكثر في سعر صرف الجنيه"، تزامناً مع صدور تقارير من مؤسسات دولية، ومراكز أبحاث، تؤكد تقييم الجنيه حالياً بأكثر من قيمته، بما لا يقل عن عشرة بالمائة.
كلّ المؤشرات إذاً كانت تؤكد التخفيض، وكانت التساؤلات خلال الأسابيع الأخيرة تدور حول: هل سيخفض البنك الجنيه تدريجياً كما يحدث حالياً، أم سيكون هناك تخفيض كبير مفاجئ، كما حدث في شهر مارس/ آذار الماضي؟
انتظر الجميع الإجابة في الثاني والعشرين من شهر سبتمبر/ أيلول الماضي، موعد اجتماع لجنة السياسة النقدية في البنك المركزي، بعد أربعٍ وعشرين ساعة من قرار البنك الفيدرالي برفع معدلات الفائدة الأميركية الأساسية بخمسٍ وسبعين نقطة أساس، إلّا أنّ القرار جاء من المركزي المصري بتثبيت معدلات الفائدة، من دون إجراء تخفيض جديد للجنيه، بخلاف القرشين أو الثلاثة المعتادين في كلّ يوم.
لا يبدو البنك المركزي المصري متحمساً لتخفيض الجنيه، نظراً لما يسببه ذلك من ارتفاع أسعار في الشارع المصري، خاصة والبلاد تشهد حالياً أعلى معدل تضخم "معلن" في أكثر من ثلاث سنوات. لكنه يواجه مشكلة في نقص الموارد بالعملة الأجنبية، بينما تتراكم التزامات خدمة الدين، وفاتورة الواردات، بالإضافة إلى طلبات المصريين المتناثرة بين السفر الترفيهي، والتعليم أو العلاج في الخارج، أو الاشتراكات الدولية في منتجات التكنولوجيا التي تزايدت بصورة كبيرة خلال الأعوام الأخيرة.
تولّى القائم بأعمال محافظ البنك المركزي، حسن عبد الله، المسؤولية قرب منتصف أغسطس/ آب، وكان سعر الدولار في حدود 19.11 جنيهاً في مصر، فتركه يرتفع بالتدريج يوماً بعد الآخر، حتى وصل إلى 19.55 في نهاية الربع الثالث من العام، وبنسبة ارتفاع 2.3% في غضون 45 يوماً، نسبة لا تعد كبيرة بالمعايير الدولية في 2022.

تزامن التحرّك البطيء لسعر العملة المصرية في البنوك المصرية مع سماح البنك المركزي للعملاء بسحب وإيداع كميات كبيرة من البنوك من العملتين، وهو ما كان إشارة بإطلاق يد راغبي الاستيراد في السوق الموازية، فيما اعتبره محللون محاولة لمعرفة السعر الحقيقي للعملة المصرية، لو تم تعويمها.
ورغم حدوث قفزات كبيرة في بعض الأحيان في سعر السوق الموازية، يؤكد كبار رجال البنوك في مصر ممن خبروا التعامل في السوق المصرفية أن السعر الحقيقي لا علاقة له بالأسعار المتداولة بصورة غير رسمية.
يؤكد بعض المقربين من البنك المركزي أن سعر الدولار في مصر لن يذهب بعيداً عن السعر الحالي، أي أنه على الأرجح لن يتجاوز عشرين جنيهاً. وفي حين كان البعض يرى أن ذلك لا يمكن أن يحدث طالما استمرت معاناة ميزان المدفوعات المصري من عجز، يبدو أن البنك المركزي، في ظل قيادته الجديدة، لديه رؤية أخرى.
المشهد المصري الحالي يوحي بأن البنك المركزي يحاول استطلاع سعر حقيقي للدولار مقابل الجنيه، وفي الطريق إلى ذلك السعر، فإنه يخفض العملة المصرية بنسب ضئيلة بصورة يومية، من أجل تحري السعر الحقيقي.
وتزامناً مع هذه الخطوات، يحاول البنك المركزي، وغالباً كافة أعضاء الحكومة المصرية، الحصول على كمية ضخمة من الدولارات، من الدول الخليجية "الشقيقة"، ومن صندوق النقد الدولي، وربما من بعض الدول الأوروبية وأميركا والصين، من أجل إلقاء عدة مليارات للبنوك وفي الأسواق، بهدف مقابلة الطلب الذي يضغط على السعر في السوق الموازية، ويستنزف ببطء احتياطي النقد الأجنبي في البلاد، ويعقد موقف السندات المصرية الدولية (يوروبوند) في الأسواق العالمية، ويدمر قيمة الأصول المصرية، مالية كانت أو غير مالية.
يحاول البنك المركزي المصري جمع تلك المليارات، ولا يبدو أمامه من سبيل إلا الأموال الساخنة التي "لسعتنا" عدة مرات من قبل، والتي يمكن اجتذابها مرة أخرى عن طريق معدلات الفائدة المرتفعة في أدوات الدين بالعملة المصرية.
ويقول المقربون من البنك إنّه يرغب في جذب هذه الأموال هذه المرة من أجل كسب المزيد من الوقت لتجاوز المحنة الحالية، قبل البدء في إصلاح الاقتصاد الحقيقي، بما يضع حداً لنزيف العملة الأجنبية في البلاد.
يذكرنا البنك بما يفعله حالياً إن صحت التحليلات والتقديرات، بأن دور السياسة النقدية والبنك المركزي ليس الأساس في حل أزمة العملة في البلاد، وإنما يأتي لعلاج القصور الذي سببه الاقتصاد الحقيقي.

موقف
التحديثات الحية

وإذا كان الاعتماد على البنك المركزي وحده في إصلاح الخلل خلال السنوات الماضية وصل بنا إلى هذه الحال، فحري بنا أن نتوجه جميعاً نحو البحث عن علاج طويل المدى، يسمح بسد العجز في الحساب الجاري والميزان التجاري، لضمان عدم استمرار تراجع قيمة الجنيه، وصولاً إلى الحالة اللبنانية!
لا يضمن أحد نجاح مغامرة البنك المركزي، لكن الأثمان الباهظة المرتبطة بالحلول الأخرى تفرض منحها الفرصة، كما تفرض على المسؤولين اتخاذ قرارات شجاعة تتعلق بالتصدير والاستيراد، حتى لو تسببت في اختفاء بعض السلع من السوق المصرية. فهل يفعلون؟

المساهمون