البرج الأيقوني شاهد شاهق الارتفاع على "مصر الجديدة" الغارقة في الديون... جدران الأزمة تتصاعد
تجري الحكومة المصرية مفاوضات صعبة مع الصين لمبادلة أصول البرج الأيقوني، وعدد من المباني في حي المال والأعمال بالعاصمة الإدارية الجديدة، بديون تسدد بالعملتين المحليتين بين مصر والصين.
تصطدم المفاوضات بإعادة تقييم الأصول، بعد رفع الجانب الصيني قيمة المشروعات من 1.2 مليار دولار المحددة إلى 3.7 مليارات دولار، وممارسة الجانب الصيني ضغوطاً تحول دون اكتمال المشروع، في وقت ترغب الحكومة افتتاحه رسمياً في احتفال ضخم في يوليو/تموز المقبل.
جاء الخلاف بين الجانبين متوقعا في ظل تغيير النظام شروط التنفيذ عدة مرات، بدأت بطرح البرج ومباني الوزارات على شركة إعمار الإماراتية، التي تراجعت عن تنفيذه لعدم موافقة الحكومة عل اقتراض الشركة لتمويل المشروع من البنوك المحلية.
لجأت الحكومة إلى الجانب الصيني للحصول على تمويل للمشروع، الذي اشترط تنفيذه عبر شركاته، ومقابل 3600 دولار للمتر المربع. في البداية، رفضت الرئاسة المبالغ المحددة من الجانب الصيني، مطالبة بأن يجرى التنفيذ من قبل شركات حكومية ثبت عدم خبرتها في بناء ناطحات السحاب، على أن يتحول الجانب الصيني إلى ممول ومقاول للتنفيذ.
بعد اتصال أجري بين رئيسي البلدين مطلع عام 2016، تعهدت الصين بتمويل المشروع وتنفيذه لصالح الحكومة المصرية، بقرض أولي من بنك التعمير الصيني قيمته 1.2 مليار دولار بفائدة 3.5% مع فترة سماح 5 سنوات. دفعت الأزمة المالية، التي ظهرت بوادرها عام 2020 مع انتشار وباء كورونا، إلى مطالبة الحكومة الجانب الصيني بتغيير شروط الاتفاق بأن تتولي تمويل وتنفيذ المشروع مقابل ملكية مناصفة بين الجانبين، تدفع من عوائد البيع.
لجأت الشركة الصينية إلى رفع تكلفة المشروع مبررة الزيادة بارتفاع تكلفة مستلزمات البناء والشحن والتأمين وأجور العاملين، مع تعطل تنفيذه على فترات طويلة، خلال الفترة الممتدة من عام 2016 إلى 2023، ساهمت في رفع معدلات التضخم والغلاء.
حصلت الحكومة على القرض ضمن حزمة قروض لمشروعات مرتبطة بالعاصمة الإدارية بإجمالي 58 مليار دولار. وتخطط الشركة لبيع حصة كبيرة من ملكية البرج للقطاع الخاص، بعد إعادة تقييم أصول البرج مقومة بالدولار، لمجابهة التراجع الهائل في سعر الجنيه مقابل العملات الصعبة.
مع بدء موجات تراجع الجنيه مع التعويم الثاني في مارس/آذار 2022، أوقفت الشركة المنفذة إجراءات فتح باب الحجز في البرج الأيقوني، بعد أن سمحت لشركات التسويق ببيع وحداته، الإدارية والسكنية، بمساحات تبدأ من 138 متراً حتى 207 أمتار، بسعر 100 ألف جنيه للمتر (بما يعادل 3200 دولار) مطلع عام 2022.
يشير خالد عباس، رئيس شركة العاصمة الإدارية للتنمية العمرانية، إلى أن قيمة قرض البرج تصل إلى 2.7 مليار دولار، مؤكدا أن الشركة ستتولى تسديد قيمة القرض الصيني من مبيعات البرج وأبراج حي المال والأعمال، بالإضافة إلى بيع الأراضي المطلة عليها، وعرضها بسعر أعلى ربحية بما يرفع عوائد البيع للشركة والدولة.
وفقا لتصريحات الجانب الصيني، بلغت قيمة مستلزمات البناء 1.5 مليار دولار، بينما خصصت الشركة 1.5 مليار دولار للعمالة المنفذة له، في ظاهرة يعتبرها خبراء هي الأعلى تكلفة لبناء الأبراج. وتبرر الشركة المنفذة زيادة التكلفة إلى ارتفاع تكلفة المواد الخام، وارتفاع أجور العمالة، والتأمين عليها أثناء فترة الوباء، وصعوبة تنفيذ المشروع، في مخالفة للواقع، حيث بني المشروع على أرض رملية مستقرة، من دون أية عوائق طبيعية، وفقا لمصادر متخصصة في قطاع البناء.
الحكومة تُسرع في بيع الأصول
اختارت شركة العاصمة الإدارية للتنمية العمرانية إحدى الشركات المتخصصة في تقييم الأصول تمهيداً لنقل ملكية البرج إلى محفظتها المالية، والبدء في بيع الأصول في النصف الثاني من 2024. تُسرع الحكومة في بيع الأصول العامة لمواجهة النقص الحاد في العملات الصعبة وتراكم الديون الأجنبية، التي ارتفعت بحدة متأثرة بالنفقات الهائلة على مشروعات العاصمة الجديدة، والبنية التحية المؤدية لها والتي فاقت 165 مليار دولار حتى سبتمبر/أيلول 2023.
تشير صفقة مبادلة الديون، الموقعة مؤخراً بين القاهرة وبكين لاستبدال دفع الديون بين البلدين من الدولار إلى العملات المحلية، إلى أن التكلفة بلغت 25.9 مليار يوان، بما يعادل 3.7 مليارات دولار.
يقترب المبلغ من قيمة النفقات التي شيدت بها الشركة الصينية مبنى المال والأعمال في شنغهاي، المقام بارتفاع 110 طوابق، بتكلفته نحو 4 مليارات دولار، عام 2012، ويشارف قيمة برج "خليفة" في دبي الذي يحتفظ بصدارة ارتفاع ناطحات السحاب عالميا، وبدأ تشغيله في أزمة مالية خانقة مشابهة للوضع الحالي عالمياً، إثر أزمة الانهيار المالي عام 2008، جراء انفجار فقاعة التمويل العقاري.
تقول وزارة الإسكان إن المبلغ الاجمالي يشمل 20 برجاً تقيمها الشركة الصينية، متنوعة الاستخدامات، خصصت كمقار للوزارات، ومن بينها البرج الأيقوني في منطقة الأعمال المركزية بالعاصمة الإدارية، التي تضم قصراً رئاسياً ضخماً وعشرات المباني الحكومية والأمنية شديدة التحصين، يؤكد خبراء أنها "أغرقت الدولة بالديون".
شرعت الشركة الصينية في بناء البرج، مطلع عام 2018، بعد مفاوضات استغرقت عامين مع وزارة الإسكان وهيئتي المجتمعات العمرانية والهيئة الهندسية للقوات المسلحة حول التمويل والتصميم، الذي استهدف في بدايته أن يحاكي شكل المسلة الفرعونية من حيث الأبعاد والنسب مع قمة تشبه زهرة اللوتس، والجسم كنهر النيل في جريانه فوق سطح الأرض.
جرى تسمية مبني البرج بـ"الأيقوني" بدلاً من"المسلة"، الاسم المقترح أولاً، باعتباره تحفة معمارية فريدة، رغم كونه نموذجاً متكرراً في أعمال الشركة المنفذة "هندسة البناء الحكومية الصينية" (CSCEC) في عدد من المدن الصينية.
أنشأت "سيسك" نحو 90% من ناطحات السحاب في الصين، ما زال بعضها شاغراً منذ سنوات، وتمارس أنشطتها في 100 دولة. وتحتل الشركة المرتبة 21 ضمن أفضل 50 شركة لتنفيذ الأعمال العقارية والإنشائية على مستوى العالم، وتعد ذراع الدولة لإقامة مشروعات مملوكة للحكومات، أو تقام عبر قروض بضمانات حكومية.
خصصت للبرج مساحة 7.1 ملايين متر مربع، وتتضمن حدود المبنى 78 طابقاً، على 240 ألف متر مربع، ويصل ارتفاعه إلى 385 متراً، بزيادة 68 متراً عن برج جوهانسبرغ في جنوب أفريقيا و35 متراً عن برج بنك أفريقيا في المغرب. تضع وزارة الإسكان 15 متراً إضافية في ارتفاعات البرج ليصبح 400 متراً، بينما يؤكد مهندسون عملوا في المشروع لـ"العربي الجديد" أن الزيادة تتعلق بإضافة برج اتصالات فوق المبني، وليس في الهيكل الخرساني.
خططت الشركة أن يصبح الجزء الأول من البرج مقراً للبنك المركزي، فإذا بالحكومة تنشئ مقراً للبنك ومطبعة جديدة على مسافة قريبة منه.
يفترض أن يصبح البرج مقرا للبورصة، ليصبح على شاكلة برج بورصة الأوراق المالية، الذي أقامته " سيسك" وسط شنغهاي عام 2010، والذي أصبح مقراً للبورصة وشركات المال والأعمال في الصين. تحتوي الأدوار الوسطى من البرج على شقق سكنية مختلفة المساحات، فيما سيخصص الجزء الأخير لإنشاء مجموعة من الفنادق الفاخرة، مستوى 6 و7 نجوم، لم يخرج أي منها إلى النور حتى الآن.
تصف دراسة علمية أجراها المعهد الإيطالي للدراسات السياسة الدولية "ISPI" البرج الأيقوني بأنه عمل يستهدف "إعادة تشكيل الهوية الوطنية، عبر مشاريع بنية تحتية تحدث تغييراً شاملاً للهوية الثقافية والمعمارية التقليدية في مصر، واستئصال ارتباط القاهرة (المدينة المنتصرة) بتاريخها في تقليد لمدن دول الخليج الحديثة، والابتعاد عن الروح الفرعونية والعربية بهوية مترفة تدعهما النخبة التي اعتادت التنقل بين المدن الجديدة، باعتبارها مدينة ذكية يعيش فيها الناس حياة أفضل، بينما هي في الواقع مدينة مراقبة".
استعانت إدارة العاصمة بشركة "هانيويل" الأميركية المتخصصة في تكنولوجيا المراقبة الجماعية لإقامة مركز للقيادة والتحكم في شبكات بث مباشر، تنقلها 6 آلاف كاميرا معلقة في شوارع العاصمة إلى مركز متطور لمراقبة البشر والحركة المرورية، يتولى تحليل صور الفيديو على مدار الساعة.
في تصريحات سابقة لـ"العربي الجديد"، أكد خالد عباس، رئيس شركة العاصمة، أن جميع الخدمات والمعاملات داخل المدينة ستجرى عبر تطبيقات خاصة بالمدينة وشبكات الجيل الخامس للإنترنت، بما يضمن تسهيل الحياة للمقيميين والمستثمرين بداخلها. من ناحية أخرى، سيصبح زائر المدينة، والبرج الأيقوني بخاصة، مطالبا باستخدام تطبيقات على هاتفه تحدد مواعيد زيارته وأماكن تجواله بالعاصمة.
الافتتاح يتأخر عدة مرات
تسابق شركة العاصمة الزمن لافتتاح البرج الأيقوني في احتفال ضخم يقام مطلع يوليو/تموز المقبل. تأثر موعد افتتاح البرج عدة مرات، آخرها في يوليو/تموز 2022، لتأثر الشركة المنفذة بتعطل الامدادات من الصين، وعودة أغلب عمالها إلى بلدهم أثناء انتشار وباء كورونا خلال الفترة من 2020 إلى 2022.
تعتمد الشركة بنسبة تزيد عن 90% على العمالة التي تجلبها من مركزها الرئيسي، بعد أن حصلت على استثناء في تشغيل العمالة الأجنبية، من الجهات المشرفة على المشروع ووزارة العمل، تقضي بأن يكون حجم العمالة الأجنبية في أي مشروع لا يتجاوز 10% من القوى العاملة به.
جاءت الشركة الصينية بالمهندسين والمشرفين والعمال، فأصبحت المصمم والمقاول والمنفذ، وتتولى "دار الهندسة" الأعمال الاستشارية كممثلة لشركات الجيش المالكة أصولَ العاصمة بنسبة 51%.
رفضت الشركة الصينية الاستجابة عدة مرات لطلب وزير الإسكان زيادة أعداد العمالة الصينية والمصرية للانتهاء من تنفيذ المشروع وفقا للجدول الزمني، معللة ذلك بمشاكل في سلاسل شحن مكونات المبنى التي جاءت أغلبها من الخارج، وشملت الهيكل الصلب والحديد المخصوص، والروافع والألومنيوم، والزجاج والسيراميك، وأنظمة الإطفاء والتبريد والكهرباء والمصاعد والتحكم في التشغيل وأنظمة الرقابة والإطفاء والديكور والتشجير.
اشترطت "سيسك" استيراد الإسمنت المستخدم في صناعة الهيكل الخرساني من الصين. إذ برر "وي جيان شون"، مدير المشروع، طلبه في دراسة قدمها للاستشاري الهندسي ومعامل كلية الهندسة في جامعة عين شمس، بأن الإسمنت المصري لا يتحمل درجات الحرارة العالية في حالة نشوب حريق بالمبني.
قدم المدير دراسة فنية، حصلت "العربي الجديد" على نسخة منها، تُبين أن المباني المقامة من الإسمنت المحلي تتعرض للانهيار عند درجة 300 درجة مئوية، بينما الإسمنت المخصص للأبراج العالية، المستورد من الصين، يبدأ في التصدع عند وصول درجة الحرارة إلى أعلى من 600 درجة مئوية بعد ساعتين من اندلاع الحريق، بما يمكن أجهزة الدفاع المدني من إخراج مَن في البرج في حالة الكوارث.
يثير فنيون مصريون شاركوا في المشروع المخاوف من اندلاع حريق في البرج، لافتين لـ"العربي الجديد" إلى أنه رغم وجود نظام آلي لمكافحة الحرائق بداخله، فإن عدم امتلاك شركة العاصمة سوى 4 عربات إطفاء يمكنها مقاومة الحرائق على ارتفاع 56 متراً فقط، بما يوازي 25% من ارتفاع البرج، ووجود طائرات للدفاع المدني والحريق في حيازة قوات الجيش فقط، يكرس المخاوف من مخاطر الإقامة في الفنادق والأماكن الترفيهية التي ستقام أعلاه.
عقارت فاخرة في بلد مأزوم
في تصريحات رسمية لرئيس مجلس الوزراء مصطفى مدبولي، أعرب عن أمله أن يساهم البرج ومشروعات الإسكان الفاخر المرتبطة به في جذب المستثمرين الأجانب، بهدف تنشيط سوق العقار وتحويله إلى مصدر دخل للعملة الصعبة. أسندت شركة العاصمة لأحد بيوت الخبرة الدوليين مهمة إعادة تقييم الأصول، ورفع رأس المال من 55 مليار جنيه إلى نحو 300 مليار جنيه خلال 3 أشهر، تمهيدا لطرح جزء من ممتلكات الشركة في بورصة الأوراق المالية، في النصف الثاني من العام الجاري.
أكد خالد عباس، رئيس شركة العاصمة، في تصريحات صحافية، أخيراً، رغبته في جمع 150 مليار جنيه من حصيلة بيع الأصول، بما يمكنه من استكمال تطوير وتوسعة المدينة، مشيرا إلى أن البرج الايقوني سيعكس بداية انطلاق مدن الجيل الرابع المستقلة بذاتها عن كافة الوزارات والبلديات، والتي تتميز بوجود ناطحات السحاب والمباني الفاخرة والإدارة والتكنولوجيا والخدمات والمرافق صديقة البيئة.
بينما يشير مطورون عقاريون إلى صعوبات تواجه بيع العقارات المصرية لمستثمرين أجانب، في ضوء عدم وجود حوافز للمستثمرين في عمليات الشراء، وسيطرة البيروقراطية على الجهاز الإداري في الدولة، الذي يعرقل عمليات تسجيل الملكية وارتفاع خدمات الشهر العقاري، مع صعوبات رد أموال المستثمرين بنفس العملة التي دفعها في قيمة الوحدات إذا ما أراد الخروج بعوائد البيع أو الأرباح من السوق المحلية.
أكد فتح الله فوزي، رئيس لجنة المطوريين العقاريين في جمعية رجال الأعمال المصريين، ضرورة تعديل التشريعات الحاكمة للقطاع العقاري، لتضمن حوافر للمستثمرين تنافس الإجراءات التي تقدمها كل من دبي والرياض باعتبارها السوق المنافسة في بيع العقارات الفاخرة بالمنطقة.
وتعكس مخاوف المطورين صعوبة تدبير الحكومة وشركة العاصمة قيمة الدين المستحق للجانب الصيني، الذي يرفض الدخول في مبادلة الدين عبر شراكة في الملكية، وفقا للتصور الأول الذي طرحته الحكومة منذ بداية التفاوض على إنشائه عام 2015.
ويبدي خبراء خشيتهم من اعتماد الحكومة على سداد الديون من قطاع العقارات، الذي حظي بتمويل هائل من الدولة خلال عقد كامل، بينما يواجه العقار الفاخر تراجعاً في الطلب عالمياً، ما يزيد الأزمة المالية سوءاً.