الانهيار المالي والقطاعات الإنتاجية اللبنانية

02 نوفمبر 2021
الغلاء يطحن المواطنيين ببيروت وسط انهيار الليرة (Getty)
+ الخط -

في العادة، تستفيد القطاعات الإنتاجية في أي دولة من الانخفاضات التي قد تطرأ على قيمة العملة المحلية لهذه الدولة، من خلال زيادة قدرتها التنافسية محلياً وفي الأسواق الخارجية. فانخفاض سعر صرف العملة المحلية يؤدي تلقائياً إلى رفع أسعار السلع والخدمات المستوردة من الخارج مقارنة بمثيلاتها المنتجة محلياً، كما يؤدي إلى خفض أسعار السلع والخدمات المنتجة محلياً عند بيعها في الأسواق الخارجية بالعملة الصعبة.

ولهذا السبب، يربط الكثير من الاقتصاديين بين تصحيح قيمة العملات المسعّرة فوق قيمتها الفعلية، وبين إنتاجية اقتصادات الدول.
في حالة لبنان بالتحديد، لطالما جرى الربط بين تثبيت سعر صرف الليرة اللبنانية قبل عام 2019 من جهة، وريعية الاقتصاد اللبنانية، وحالة الوهن التي أصابت جميع قطاعاته الإنتاجية.
فسياسة تثبيت سعر الصرف، والإنفاق من احتياطات المصرف المركزي للإبقاء على سعر منتفخ لليرة بشكل مصطنع، أدت إلى توفير السلع والخدمات المستوردة في السوق اللبناني بأسعار زهيدة، قياساً بالأسعار التي كان يمكن أن تصل إليها لو تم تعويم سعر صرف الليرة. وفي المقابل، كانت السلع والخدمات اللبنانية تعاني من ارتفاع أسعارها من الخارج، نتيجة سعر صرف الليرة المنتفخ والمدعوم من قبل المصرف المركزي.

لكل هذه الأسباب، كان يفترض أن يكون انخفاض سعر صرف الليرة اللبنانية في السوق الموازية منذ أكتوبر/تشرين الأول 2019 سبباً لتصحيح هذا الوضع، وإعطاء دفعة لقطاعات لبنان الإنتاجية.
ومع الارتفاع القياسي في أسعار السلع المستوردة في السوق المحلي اللبناني، نتيجة ارتفاع سعر صرف الدولار مقابل الليرة، توقّع كثيرون أن يمثّل هذا العامل سبباً لتعزيز الصناعات والزراعات المحلية، والخروج من حقبة الاعتماد على السلع المستوردة لتأمين الغالبية الساحقة من حاجات المقيمين. مع الإشارة إلى أن لبنان استورد خلال عام 2019 ما قيمته 19.24 مليار دولار من البضائع والخدمات، في حين أنه لم يصدّر إلا نحو 3.74 مليارات دولار منها.
لكن ما جرى من الناحية العملية كان العكس تماماً. فبخلاف المتوقع، أدّى التدهور المالي والاقتصادي الحاصل إلى حالة من التراجع التي ضربت جميع القطاعات الإنتاجية بعد أكتوبر 2019، بما فيها الزراعية والصناعية، وهذا ما تظهره جميع المؤشرات المتوفرة.

سياسة تثبيت سعر الصرف، والإنفاق من احتياطات المصرف المركزي للإبقاء على سعر منتفخ لليرة بشكل مصطنع، أدت إلى توفير السلع والخدمات المستوردة في السوق اللبناني بأسعار زهيدة

فأرقام الميزان التجاري تظهر مثلاً أن حجم السلع والخدمات المستوردة تراجع بنحو 41.2% خلال عام 2020 مقارنة بالعام السابق، ليبلغ نحو 11.31 مليار دولار، وذلك نتيجة ارتفاع سعر صرف الدولار، والتراجع في القدرة الشرائية للمقيمين، وهو ما أدى إلى تراجع إجمالي حجم استهلاكهم.
لكنّ حجم الصادرات لم يرتفع في المقابل، ولم تستفد المؤسسات اللبنانية من زيادة تنافسيتها في الخارج نتيجة تراجع سعر الصرف. بل على العكس تماماً، تظهر أرقام الميزان التجاري أن حجم الصادرات تراجع خلال ذلك العام بنحو 5%، ليقتصر على قيمة لا تتجاوز 3.56 مليارات دولار.
وإذا كان البعض يعزو هذا التراجع إلى حالات الإقفال التي شهدتها أسواق العالم خلال عام 2020، نتيجة تفشي وباء كورونا، فحال الصادرات اللبنانية لم يتغير في مطلع عام 2021، رغم دخول الاقتصادات العالمية مرحلة الانتعاش، والخروج من حقبة الإقفال الشامل للأسواق. فأرقام الميزان التجاري في الربع الأول من هذه السنة تظهر تراجع حجم الصادرات بنسبة ضخمة بلغت 31.44%، ما أدى إلى اقتصارها على ما يقارب 698.61 مليون دولار. أما حجم الواردات فاستمر في التراجع، نتيجة استمرار تهاوي قيمة الليرة وتراجع حجم الاستهلاك المحلي.

أخطر ما في هذه الأرقام، هو أن بعض الصادرات، كالمعادن والأحجار الثمينة، باتت تمثّل وحدها 40% من إجمالي صادرات لبنان، بعدما تراجع حجم جميع الصادرات الأخرى. وصادرات لبنان من المعادن والأحجار الثمينة لا تعكس في معظمها أي نشاط اقتصادي منتج، بل غالباً ما تمثّل عمليات تهريب سيولة مقنّعة تجري من خلال شراء هذه الأحجار والمعادن ومن ثم تصديرها. وبالتالي، فجزء كبير مما تبقّى من صادرات لبنان لم يعد يمثّل أساساً أنشطة قادرة على خلق الوظائف أو التأسيس لنمو اقتصادي ما.
سائر المؤشرات الاقتصادية كانت تدل، طوال الفترة الماضية، على نفس الأزمة التي تعاني منها قطاعات لبنان الإنتاجية. فحجم المحاصيل الزراعية تراجع خلال العام الماضي إلى نحو 736.87 مليون دولار، مقارنة بنحو 1.11 مليار دولار في العام السابق، مسجلاً بذلك تراجعا بنسبة تقارب 33%، وهي نسبة تراجع مفاجئة لم يشهدها لبنان منذ عشرات السنوات. أما حجم إنتاج البلاد من الدواجن، فسجّل بدوره تراجعاً بنسبة 14%، ليبلغ نحو 696 مليون دولار سنة 2020، مقارنةً بـ 815.85 مليون دولار في السنة السابقة.

أدّى التدهور المالي والاقتصادي الحاصل إلى حالة من التراجع التي ضربت جميع القطاعات الإنتاجية بعد أكتوبر 2019

أما بالنسبة للصناعات، فتشير أرقام وزارة الصناعة اللبنانية إلى أن حجم الصادرات الصناعية وحدها شهد تراجعاً بنسبة 12.1% بين عامي 2019 و2020، لتقتصر خلال العام الماضي على قيمة لم تتجاوز حدود الـ 2.2 مليار دولار. وفي الوقت نفسه، تراجع حجم الاستثمار في الأنشطة الصناعية أيضاً إلى حدود 84.3 مليون دولار في السنة الماضية، مقارنة بـ189.6 مليون دولار، خلال العام السابق.
تتنوّع أسباب التراجع الكبير في واقع القطاعات الإنتاجية، والذي يناقض مسار الأمور المتوقع بعد تراجع سعر صرف الليرة.
السبب البديهي الأول يتصل بتداعيات الانهيار على القطاع المصرفي اللبناني، والتي أدّت إلى حبس سيولة المؤسسات الصناعية والزراعية الموجودة في المصارف، وعدم قدرة هذه المؤسسات على استعمال هذه الدولارات لاستيراد المواد الأولية والتجهيزات. أما شح العملة الصعبة في الأسواق، وارتفاع سعر صرف الدولار بعد حرمان المؤسسات من دولاراتها الموجودة في المصارف، فساهما في مفاقمة آثار هذه الأزمة.

وفي الوقت نفسه، ساهمت أزمة المحروقات، طوال الفترة الماضية، في حرمان هذه المؤسسات من مادة المازوت التي تحتاجها لتشغيل مولداتها الخاصة، خصوصاً في ظل ساعات التقنين الطويلة التي تفرضها مؤسسة الكهرباء الرسمية، والتي تجاوزت الـ20 ساعة في اليوم الواحد. كما أدى انهيار الخدمات العامة، نتيجة تعثّر الدولة مالياً، إلى فقدان أبسط المقومات التي تحتاجها المؤسسات الإنتاجية في جميع القطاعات، خصوصاً من جهة شبكات الري بالنسبة للقطاع الزراعي.

وأخيراً، ظلت جميع هذه المؤسسات تعاني من ارتفاع كلفة التصدير البرّي، بسبب ارتفاع رسوم الترانزيت على الحدود مع سورية، بالإضافة إلى تباطؤ خدمات مرفأ بيروت بعد انفجار الرابع من أغسطس/آب 2020. كما عانت القطاعات المنتجة من عدم قدرتها على الحصول على أبسط الخدمات المصرفية المطلوبة لتمويل التجارة الدولية نتيجة الأزمة المصرفية.
وهكذا، ولكل هذه الأسباب، عانت مختلف شرائح المجتمع من آثار انهيار سعر صرف الليرة، من خلال التراجع في قيمة الأجور والرواتب الشرائية، وتدنّي قيمة المدخرات بالعملة المحلية. لكن في المقابل، لم تحصد البلاد ما كان يفترض أن تحصده، من إيجابيات تراجع سعر الصرف.

المساهمون