لما نشر بيان رسمي سعودي وآخر إيراني يوم الخميس الموافق التاسع من شهر مارس/ آذار، أو قبل أسبوع من اليوم. كانت المفاجأة كبيرة، والخبر الطارئ دفع الخبراء والمحللين إلى حك رؤوسهم وإعمال ذهنهم لكي يفسروا ما حصل. وبالطبع هناك دوافع محلية في كلا البلدين وإقليمية ودولية. لكنّ كليهما سوف يستفيد من تبادل السفراء خلال شهرين، وسوف يدخلان عبر التفاوض المستمر في اتفاقات سياسية في اليمن ولربما سورية والعراق، ولبنان.
سنركز اليوم على تحليل الدوافع الاقتصادية لكلا البلدين، والتي لا ترقى، على أهميتها، إلى درجة الأبعاد السياسية والدوافع العسكرية نفسها.
لقد بدأ البلدان التفاوض بترتيبات في دول المنطقة من أجل التفاوض. ومن أهم الدول التي وضعت وسائلها تحت تصرف الطرفين لكي يتفاوضا فيها كل من سلطنة عُمان، والجمهورية العراقية ودولة قطر. ومع أنّ إعلان الوصول إلى تفاهمات ملموسة لم يأت من أي من هذه الدول، بل من الصين، إلّا أنّ هذه الدول كانت الأسرع في إعلان تأييدها للاتفاق ومكوناته، وتلاها عدد من الدول العربية، مثل الأردن، ومصر، والإمارات العربية المتحدة، ولبنان، وسورية. أما الولايات المتحدة، فلم ترد أن تظهر كأنها كانت منسية. فصرح الناطق باسم الخارجية الأميركية بأنّ الولايات المتحدة كانت على علم بالمفاوضات الجارية في الصين، لكنّها لم تشارك فيها.
ولبحث الدوافع الاقتصادية دعونا نمهد لذلك ببعض الحقائق الأساسية: الأولى هي زيارة الرئيس الصيني شي جين بينغ إلى السعودية قبل ثلاثة أشهر، والتي مهدت لمؤتمري قمة خليجي وآخر عربي. والصين أكبر مستورد للنفط في العالم، وخاصة من السعودية.
والثانية هي قيام وزير الخارجية السعودي بزيارة أوكرانيا، ودفع 400 مليون دولار كانت الحكومة السعودية قد وعدت بدفعها، واستطاع الوزير فيصل بن فرحان أن يتجنب الوقوع في شرك الانحياز إلى أي من طرفي الحرب على أوكرانيا. واكتفى بالدعوة إلى التفاوض وإنهاء تلك الحرب.
وبعدها وقبل أسبوعين تقريباً، زار الوزير السعودي روسيا، واجتمع بوزير الخارجية الروسي (لافروف) واتفقا على تنسيقالجهود للحفاظ على سعر النفط، رغم الاتفاق الأميركي الأوروبي على وضع سقف لسعري النفط والغاز الروسيين. وكذلك اتفق وزيرا الخارجية الفرحان ولافروف على استمرار التنسيق بينهما في سورية، وعلى زيادة التبادل بينهما. وقد شكر لافروف نظيره السعودي على موقف بلاده المحايد من الحرب الأوكرانية.
وهكذا استطاعت الدبلوماسية السعودية أن تنظم أمورها في مجال النفط عرضاً مع روسيا وطلباً مع الصين، وأن تمنح الصين فرصة الاجتماع الناجح الذي أدى إلى الاتفاق مع الجمهورية الإسلامية في إيران. وهكذا، حافظت السعودية، إلى أعلى درجة ممكنة، على مصالحها الاستراتيجية الاقتصادية من دون أن تعطي مبرراً للولايات المتحدة لكي تغضب، حيث وصفتها الدبلوماسية السعودية بأنّها الشريك الاستراتيجي الذي لا انفكاك عنه.
أما الجمهورية الإيرانية، فقد قدمت البراهين في الشهر الماضي على قدراتها العسكرية، من خلال إطلاق صاروخ بعيد المدى وعابر للبلدان، ما أغضب الأميركيين والأوروبيين، وأهاج نتنياهو، ودفع كلاً من وزير خارجية أميركا (بلينكن) ووزير دفاعها (لويد أوستن الثالث) لأن ينددا بإيران وبمحاولاتها تطوير أسلحة نووية، خاصة بعد زيارة أمين عام وكالة الطاقة النووية الدولية لإيران، واكتشاف (بالصدفة) كتلة يورانيوم مخصبة إلى درجة 84%. ومن الواضح أن هذا يعني أن إيران إما صنعت قنابل نووية قذرة (dirty bomb) والتي يمكن تصنيعها بتخصيب 60%، أو قنبلة نظيفة بنسبة تخصيب 80% أو أكثر.
لكنّ إيران واجهت تظاهرات ضخمة في شوارعها أدت إلى ردود فعل كان بعضها عنيفاً ضد المتظاهرين، خشية أن يكونوا من أقطاب المعارضة الإيرانية (مجاهدي خلق مثلاً) في باريس. والسبب الكامن وراء كلّ هذه التظاهرات هو تبرم الناس وشكواهم من تردي أوضاعهم الاقتصادية وارتفاع الأسعار حيال تردي سعر صرف الريال الإيراني بشكل كبير أمام الدولار والعملات المرتبطة به. ولعلّ من أهم أسباب ذلك هو كبر الإنفاق العسكري الإيراني، وإنفاقها على حلفائها في بعض الدول العربية، والأمر الثاني هو كلفة المقاطعة الاقتصادية الصارمة ضد إيران كدولة وضد بعض مؤسساتها ومسؤوليها، والتي بدأت تعض بأنيابها في جسم الاقتصاد الإيراني.
والأمر الثاني الاقتصادي المهم هو أنّ جزءاً من التكاليف الكبيرة التي يتكبدها البلدان (السعودية وإيران) ناتج عن الخلافات الحادة بينهما. فالحرب في اليمن، والتنافس داخل العراق، وسورية، ولبنان، بات يكلف الطرفين مبالغ هائلة، فيما تسكين الحروب، وفتح باب التفاوض حول الإشكاليات المختلفة لن ينهي التنافس بين البلدين، ولكن قد يجد الطرفان أن من الأجدى لهما أن يتخليا عن قاعدة الصفر في التعامل ويتحولا إلى معادلة (اكسب- اكسب).
وهكذا يستطيع كل بلد، بما لديه من ثروات أن يقلل من الإنفاق العسكري وتحويله إلى الجهد التنموي الذي يحتاجه البلدان من أجل تحديث اقتصاديْهما، وتنويعهما، وبناء مشروعات إقليمية تحيد الصراع وتعود بالنفع عليهما.
ولم يأتِ الاتفاق بين البلدين مصادفة، بل أتى بعد جلسات طويلة معظمها كان بعيداً عن رقابة الإعلام وكاميرات المصورين. لكن رأينا أنّ السعودية وصلت إلى حالة فصل مع الوهابية التي طالما اتهمت بالتطرف. وكذلك سمحت السعودية للحجاج الإيرانيين بالحج بأعداد أكبر هذا العام. ورأينا عودة رئيس الوزراء اللبناني السابق سعد الحريري إلى بلده ما أثار الكثيرَ من الضجة الإعلامية.
لكن الأهم من ذلك كله هو التهدئة السعودية مع قطر وعمان والكويت والتي كانت لها تحفظات على التصارع مع إيران، ذلك بسبب مشاركة قطر لإيران في حوض الغاز الخليجي، ولأنّ عُمان قريبة من مضيق هرمز ولديها جالية إيرانية مؤثرة، ولأنّ الكويت صارت في موقف متأزم بسبب وقوعها بين جنوب العراق وإيران.
أمام هذه الحقائق وغيرها. نرى أن الإشارات للمضي في التوافق بين السعودية وإيران كانت كثيرة، ودالة على أن المفاوضات بينهما أفرزت نتائج. ولا يمكن لأحد أن يصدق أن الولايات المتحدة كانت في غفلة عما يجري.
ومن المثير أن صحيفة إسرائيلية بارزة (هارتس) قد وصفت الاتفاق الإيراني السعودي بأنه فشل ذريع للسياسة الخارجية الإسرائيلية. وهو كلام ينطوي على ثقة زائدة بالنفس، لأن الإسرائيليين الذين استخدموا إيران فزاعة للعرب لتطبّع مع بعضهم، كانت تنظر إلى المملكة العربية السعودية بأنها جائزتها الكبرى. والتطبيع معها هو درة ذلك الجهد الإسرائيلي، ولكن السعودية ليست بحاجة إلى ذلك الآن.
وما يجرى داخل إسرائيل من تظاهرات ضد حكومة نتنياهو وإجراءاتها المرفوضة ضد الشعب الفلسطيني ومزارعه ومؤسساته وشبابه وأطفاله وزيتونه قد بدأت تضع رئيس وزراء إسرائيل في الزاوية. وأعطت للمتطرفين فرصة لكي يظهروا مدى حقدهم على المواطن الفلسطيني.
لا بد من تضافر الجهود لكي نوصل القضية الفلسطينية إلى حل عادل. والتطرف الإسرائيلي المقزز الرافض للسلام والمدعي بملكية القدس وما حولها قد وصل إلى أعلى موجاته، والتراجع قادم. وتهديد إيران بحرب على قدراتها النووية سيبقى موضوعاً حياً في الإعلامين الغربي والإسرائيلي. ولكني أكاد أجزم بأن رسالة أوستن وزير الدفاع الأميركي إلى رئيس الوزراء الإسرائيلي لما التقيا في مطار بنغوريون الأسبوع الماضي كانت: "اهدأ وتعقل، فالأمور صارت أصعب بكثير مما تعتقد أيها المغرور".
ونحن الآن أمام ثلاثة ملفات مهمة في مشروع المصالحة، الأول هو ماذا عن مملكة البحرين؟ وهل سيصل الطرفان إلى اتفاق واضح يمنح هذه المملكة فرصتها للتوافق المجتمعي بين المعارضة التي غالبيتها من الشيعة والحكومة هناك؟ ومثل هذا التوافق يفيد مملكة البحرين اقتصادياً، ويقلل من احتمالات التصعيد في منطقة حساسة من الجزيرة العربية.
والملف الثاني هو ملف لبنان الذي يحتاج إلى تفاهم حول رئاسة الجمهورية، وتحديد هوية الرئيس القادم، وأسس المصالحة اللبنانية، لكي يتمكن هذا البلد من استعادة قدراته على الإنتاج وتوفير الخدمات العامة.
والثالث هو موافقة السعودية على دعوة الرئيس السوري بشار الأسد للمشاركة في القمة العربية القادمة المزمع عقدها في الرياض؟
هذه أسئلة برسم الإجابة.