الأنتيمون يدخل حرب "المعادن الحرجة"... سلاح الصراعات العالمية يتصدر صدام أميركا والصين التجاري

26 نوفمبر 2024
مصنع ذخيرة في سكرانتون بولاية بنسلفانيا، 16 إبريل 2024 (فرانس برس)
+ الخط -

استمع إلى الملخص

اظهر الملخص
- تواجه الولايات المتحدة تحديات في تأمين الأنتيمون، الضروري للصناعات الدفاعية والتكنولوجية، بسبب اعتمادها الكبير على وارداته من الصين، مما يهدد الأمن القومي الأميركي وسط التوترات التجارية.
- تسعى الحكومة الأميركية لتأمين مصادر محلية للمعادن الحيوية، مثل الأنتيمون، عبر استثمارات مكثفة، نظراً لأهميته في أنظمة الأسلحة المتقدمة وأشباه الموصلات والبطاريات والألواح الشمسية.
- تحذر الصين من أن محاولات فك الارتباط الاقتصادي ستؤثر سلباً على الصناعات الدفاعية الأميركية، حيث تسيطر على إنتاج معادن حرجة أخرى مثل الغاليوم والجرمانيوم.

تبدو بكين عازمة على تجريد واشنطن من قدرتها على الردع عالمياً، حال مضي دونالد ترامب في أجندته الرامية إلى تقويض صناعات الصين وصادراتها عبر رسوم جمركية ضخمة، إذ تلوح بكين علانيَةً هذه المرة بحرب "المعادن الحرجة" التي يمكنها إفقاد الصناعات الدفاعية الأميركية توازنها.

منذ أكثر من 100 عام، غادرت سفينة من ميناء مقاطعة نوفا سكوشا على الساحل الشرقي لكندا، حاملة شحنة ثمينة لا يدرك قيمتها إلا القليلون اليوم. كان طاقم السفينة المتفائل متجهاً إلى ويلز في بريطانيا على أمل أن يقودهم المعدن الذي يحملونه إلى الثراء. ولكن للأسف، لم يصلوا إلى هناك أبداً. فقد أطلقت غواصة ألمانية كانت مختبئة في مياه المحيط الأطلسي الباردة طوربيداً، وغرقت السفينة في قاع المحيط مع حمولتها الغامضة.

في ذلك الوقت، بدا المعدن غير مهم، لكن قيمته الحقيقية لم تتحقق بالكامل إلا في وقت لاحق. والآن، أصبح هذا المعدن بالغ الأهمية للصناعات العسكرية والتكنولوجية الحديثة. ذلك المعدن، الذي نُسي في قاع البحر، ليس الذهب أو الفضة، بل "الإثمد" أو "الأنتيمون"، وهو معدن أصبح لاعباً رئيسياً في الصراعات العالمية والصناعات التكنولوجية العالية على حد سواء.

قد لا يكون الأنتيمون اسماً مألوفاً، لكنه كان مادة أساسية في الحرب لقرون. وخلال الحربين العالميتين الأولى والثانية، استُخدم في كل شيء من أغلفة الرصاص إلى المتفجرات. واليوم، أصبح الأمر أكثر أهمية من أي وقت مضى.

فوفقاً لهيئة المسح الجيولوجي الأميركية، يستخدم المصنعون الأميركيون أكثر من 50 مليون رطل (حوالي 22.6 مليون طن) من الأنتيمون سنوياً. يرجع ذلك إلى أنه عنصر أساسي في إنتاج أشباه الموصلات والبطاريات والألواح الشمسية.

كما يعتبر عنصراً بالغ الأهمية في العمليات الهجومية والدفاعية. وأي خلل في إمدادات هذا المعدن الأساسي قد يخلف آثاراً مدمرة على الأمن القومي. وهنا تكمن المشكلة. فلعقود من الزمن، اعتمدت الولايات المتحدة على واردات الأنتيمون من الصين. والواقع أن الصين تسيطر على ما يقرب من 50% من تعدين الأنتيمون و80% من إنتاجه في العالم. وهذا وضع واشنطن في موقف محفوف بالمخاطر، خاصة مع استمرار تصاعد التوترات مع بكين.

يدرك الجيش الأميركي تماماً المخاطر التي ينطوي عليها هذا الأمر. ولقد سعى البنتاغون جاهداً إلى تأمين مصدر محلي للأنتيمون، مدركاً أن فقدان القدرة على الوصول إلى هذا المعدن الحيوي من شأنه أن يؤثر بشدة على قدرة أميركا على الدفاع عن نفسها. ويصل سعر الطن في السوق الفورية إلى حوالي 38 ألف دولار.

يقول رئيس شركة Military Metals Corp التي تعمل في استخراج الأنتيمون في الولايات المتحدة، سكوت إلدريدج، وفق تقرير لنشرة "أويل برايس" الأميركية، إن لهذا المعدن أهمية بالغة ليس فقط للاستخدام العسكري، وإنما أيضاً لمجموعة واسعة من التطبيقات الصناعية. ويراهن إلدريدج على أن قيمة هذا المعدن سترتفع كثيراً مع تصاعد التوترات الأميركية مع الصين.

وهذه ليست مجرد تكهنات، فقد بدأت الحكومة الأميركية بالفعل في الاستثمار بكثافة في تأمين المصادر المحلية للمعادن الحيوية، بما في ذلك الأنتيمون. وهو مدرج على قائمة الحكومة الأميركية لما توصف بـ"المعادن الحرجة"، ولسبب وجيه. فبدونه، لا يستطيع الجيش إنتاج أنظمة الأسلحة المتقدمة اللازمة للدفاع عن البلاد. ومع إحكام الصين قبضتها على إنتاج هذا المعدن العالمي، أصبح تأمين مصدر محلي مسألة تتعلق بالأمن القومي.

والمعدن عنصر أساسي في تصنيع المعدات العسكرية، بما في ذلك الرصاص والمتفجرات والصواريخ ونظارات الرؤية الليلية. ولكن ليس الحكومة الأميركية وحدها المهتمة بتأمين إمداداته، فالقطاع الخاص أيضاً بدأ يدرك أهميته البالغة، فهو عنصر بالغ الأهمية لإنتاج أشباه الموصلات والبطاريات والألواح الشمسية، حيث يتزايد الاهتمام بالطاقة المتجددة والتكنولوجيا، مما يجعله لا غنى عنه لكل من الدفاع والصناعة. ومع سيطرة الصين على أغلب إمداداته في العالم، أصبحت الولايات المتحدة في موقف ضعيف، مما دفعها إلى تحفيز استخراجه وإنتاجه محلياً.

وقد بدأت الحكومة الأميركية بالفعل في الاستثمار بكثافة في تأمين المصادر المحلية للمعادن الحيوية، بما في ذلك الأنتيمون، في وقت يواجه فيه العالم توترات جيوسياسية متزايدة، وانقطاعات في سلسلة التوريد يتوقع تفاقمها مع تطبيق الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترامب وعوده بغرض رسوم جمركية واسعة تصل إلى 60% على السلع الصينية، وما بين 10% و20% على الواردات من مختلف دول العالم، ما يشعل حرباً تجارية ويؤثر على تدفق البضائع.

تحذير صيني صريح بتقويض صناعة الدفاع الأميركية

قبل أيام حذر مستشار كبير في الحكومة الصينية من أن الولايات المتحدة ستتحمل العبء الأكبر من أي محاولة من جانب ترامب لفك الارتباط اقتصادياً بالصين، مشيراً إلى الاعتماد على الأجزاء الصينية منخفضة التكلفة من الشركات المصنعة الأميركية بما في ذلك صناعة الدفاع. وقال الباحث في معهد التنمية العالمية التابع لمركز أبحاث التنمية التابع لمجلس الدولة الصيني، دينغ ييفان، إن خطة ترامب لرفع التعريفات الجمركية إلى 60% من شأنها أن تخفض نمو الناتج المحلي الإجمالي الأميركي إلى النصف، وسيسعى الموردون الصينيون إلى التهرب من الرسوم من خلال إعادة توجيه المنتجات عبر دول أخرى.

كان التحذير الصريح من مستشار حكومي مؤثر من بين أوضح الإشارات حتى الآن على احتمال تصعيد التوترات التجارية بين البلدين. وقال دينغ، في إفادة صحافية للحكومة الصينية، نقلتها صحيفة فاينانشال تايمز البريطانية في 18 نوفمبر/ تشرين الثاني الجاري: "إذا لم تحصل هذه الشركات العسكرية على إمدادات من الصين، فلن تتمكن من الاستمرار في إنتاجها". وأضاف: "إذا نفذ قادة الولايات المتحدة حقاً سياسات الاحتكاك التجاري أو المواجهة، فسيكون لذلك عواقب وخيمة".

ودليلاً على اعتماد الولايات المتحدة على الشركات المصنعة الصينية، استشهد دينغ بتعليقات في مؤتمر عقد في سبتمبر/أيلول الماضي حيث قال الرئيس التنفيذي لشركة "آر تي إكس" (RTX)، المعروفة سابقاً باسم "رايثيون" الأميركية وهي واحدة من أكبر عشر شركات متخصصة في الصناعات الدفاعية في العالم، غريغ هايز، إن الشركة لديها 2000 مورد في الصين. وكان هايز قد قال لصحيفة فاينانشال تايمز، العام الماضي، إن الشركات الغربية يمكن أن "تقلل من المخاطر ولكن لا تنفصل" عن الصين، وإن الأمر سيستغرق سنوات عديدة للعثور على موردين بديلين.

في تقرير حديث لشركة جوفيني (Govini) المتخصصة في تحليل البيانات الدفاعية، يتضح مدى اختراق الصين للقاعدة الصناعية للولايات المتحدة خلال السنوات القليلة الماضية، وأن الأمر وصل إلى درجة لا يمكن عندها ردع الصين. وذكر التقرير أن قدرات الصناعات الدفاعية في الولايات المتحدة تراجعت كثيراً عن ذي قبل.

ووفق ما نقلت مجلة فوربس الأميركية عن المديرة التنفيذية في الشركة، تارا ميرفي دوجيرتي، يمكن تلخيص الاعتماد المقلق للقوات الأميركية ووزارة الدفاع على الصين للحصول على الإمدادات من خلال ثلاثة أرقام رئيسية: الأول هو حصول الولايات المتحدة على أكثر من 40% من أشباه الموصلات المستخدمة في تشغيل أنظمة الأسلحة، والبنية التحتية المرتبطة بها من الصين، والثاني هو تضاعف عدد الموردين الصينيين في سلسلة الإمداد الدفاعية أربع مرات في فترة ما بين عامي 2005 و2020، أما الثالث فهو زيادة اعتماد واشنطن على المنتجات الإلكترونية الصينية بنسبة 600% بين عامي 2014 و2022.

ولفت التقرير إلى أن حاملات الطائرات الأميركية من طراز "فورد" تعتمد في تشغيلها على أكثر من 6500 قطعة من أشباه الموصلات التي تم الحصول عليها من مصادر صينية. كما تعتمد العديد من السفن الحربية والطائرات الأميركية التابعة للقوات البحرية على الآلاف من أشباه الموصلات الصينية.

الغاليوم والجرمانيوم ضمن سلاح المعادن الصيني

ليس معدن الأنتيمون وحده الذي يمكن للصين استخدامه سلاحَ ردع قوياً في مواجهة الحرب التجارية التي يعتزم ترامب تأجيجها وإنما أيضاً معادن حرجة أخرى، حيث فرضت قيوداً على تصدير الغاليوم والجرمانيوم، اعتباراً من مطلع أغسطس/آب 2023 في إطار رد أيضاً على قيود أميركية على شركات التكنولوجيا الصينية. وتنتج الصين حوالي 60% من الجرمانيوم في العالم، وفقاً للجمعية الأوروبية لتحالف المواد الخام الحرجة "سي آر إم ايه" (CRMA)، ويأتي الباقي من كندا وفنلندا وروسيا والولايات المتحدة. ووصلت صادرات الصين من الجرمانيوم الخام والمشغول إلى 43.7 طناً مترياً في 2022، وفقاً للجمارك الصينية.

ويُستخدم المعدنان في رقائق الكمبيوتر عالية السرعة وصناعات الدفاع والطاقة المتجددة. والجرمانيوم على سبيل المثال مفتاح كابلات الألياف الضوئية، ويستخدم أيضاً في التطبيقات العسكرية مثل أجهزة الرؤية الليلية وأجهزة استشعار صور الأقمار الصناعية.

في أغسطس الماضي، أصدرت لجنة استراتيجية الدفاع الوطني الأميركية تقريرها السنوي، الذي تمحورت نقاشاته حول التهديدات والتحديات التي تواجهها الولايات المتحدة وسُبل التعامل معها، إذ أشار التقرير إلى أن المخاطر المحيطة بأمن واشنطن في الوقت الحالي تُعد الأكبر منذ نهاية الحرب العالمية الثانية. وطرح التقرير إمكانية تورط الولايات المتحدة قريباً في حرب متعددة الجبهات مع خصوم متحالفين. أما نتيجة هذا التورط، فهي هزيمة واشنطن، كما رجّح التقرير، بسبب عوامل عدة، أهمها نقص حجم قوة الدفاع الوطني، التي باتت غير كافية لتلبية الاحتياجات الدفاعية وحماية الأمن القومي. ولفت التقرير إلى وجود قصور في الإنتاج الدفاعي الأميركي، الذي وصفه بـ"غير الكافي على الإطلاق" لتلبية متطلبات الصراع في حالة نشوب حرب مع قوى عظمى.

المساهمون