الأزمة المالية تعتصر الجامعات البريطانية مع تراجع أعداد الطلاب الوافدين وانكماش قيمة الرسوم

21 اغسطس 2024
حرم كلية لندن للاقتصاد في وسط لندن، 11 يونيو 2024 (جاستن تاليس/ فرانس برس)
+ الخط -

لم تحظ الأزمة المالية التي تهدد الجامعات البريطانية بمساحة نقاش كافية في الحملة الانتخابية التي كانت تنوء بمشاكل أكثر إلحاحاً مثل أزمة تكاليف المعيشة والخدمة الصحية الوطنية، لكن الواقع الراهن للتعليم العالي في بريطانيا ينذر بالخطر، إلى درجة قد تدفع بعض الجامعات لإعلان إفلاسها وتؤدي لإحجام مزيد من الطلاب عن الالتحاق بالدراسة الجامعية والبحث عن سبل أقصر لتعلم مهنة والحصول على وظيفة بدلا من مراكمة الديون، وهي نظرية تلقى رواجا في السنوات الأخيرة.

وقد اكتسبت الجامعات البريطانية، على مدى 900 عام، سمعة عالمية رفيعة، ومع تزايدها لتصبح أكثر من 300 جامعة في مختلف المناطق، أصبحت أداة نافذة للقوة البريطانية الناعمة، ومصدراً مهماً في النشاط الاقتصادي إذ تساهم بأكثر من 130 مليار جنيه إسترليني في الدخل القومي وتشغل أكثر من 750 ألف بريطاني.

لكن أسئلة كثيرة تؤرق القائمين على الجامعات البريطانية بخاصة بعد صدور التقرير السنوي لـ"الاستمرارية المالية" للجامعات في مايو/ أيار الماضي والذي أشار إلى أن 40% منها تواجه أوضاعاً مالية حرجة قد تدفعها إلى إلغاء بعض التخصصات أو الاندماج بعضها مع بعض في خدمات مثل شؤون الطلاب والموظفين ونظم المعلومات، أو تعديل أنظمة التقاعد أو حتى الإغلاق وإعلان الإفلاس.

وبشكل عام يتوقع التقرير الصادر عن "مكتب الطلاب" Office of Students المعروف اختصارا بـ OFS أن يستمر التراجع في عائدات الجامعات البريطانية خلال العام المقبل، على أمل أن يتغير الوضع في العام الدراسي 2026- 2027 بحسب توقعات الجامعات نفسها، عندما تتمكن من اجتذاب أعداد أكبر من المتقدمين من الداخل والخارج. لكن هذا الرهان غير مضمون كما يشير التقرير، نظراً لما تسجله أعداد الفئتين من تراجع في السنوات الأخيرة ما يعني أن الوضع المالي قد يزداد تدهوراً.

معضلة رسوم الجامعات البريطانية

تمثل قيمة الرسوم التي يدفعها الطلاب المحليون والأجانب الجزء الرئيسي من مداخيل الجامعات. فعلى عكس الجامعات الأميركية التي تستند إلى "أوقاف" وهبات سخية، ورسوم مرتفعة، كانت الجامعات البريطانية تعتمد على التمويل الحكومي منذ تعميم التعليم العالي في ستينيات القرن الماضي.

لكنّ حكومة العمال بزعامة توني بلير قررت تطبيق رسوم يدفعها الطلاب للجامعة، ويحصلون عليها من الحكومة تحت ما يسمى بـ"القروض الطلابية" على غرار النموذج الأميركي. قيمة الرسوم الطلابية تراجعت كثيراً على مدى السنوات الـ12 الماضية بفعل التضخم وأزمة تكاليف المعيشة في حين لم تجرؤ حكومة المحافظين، في ظل الأزمات الاقتصادية المتعاقبة، على رفعها إلا مرة واحد بمقدار 250 جنيهاً إسترلينياً عام 2017، لتظل في حدود 9250 جنيهاً إسترلينياً (11925 دولاراً) وهو ما يساوي 6 آلاف إسترليني حسب معاملات التضخم منذ عام 2012، أي أن الجامعات فقدت ثلث دخلها تقريباً خلال تلك الفترة.

ويرى البروفيسور حافظ عبدو، أستاذ الاقتصاد والضرائب في جامعة نوتنغهام، أن الأزمة المالية للجامعات البريطانية معقدة، ومركبة من عدة عوامل، ساهمت الجامعات البريطانية في بعضها، والأغلبية كانت خارجة عن إرادتها: "في المقدمة يأتي تجميد قيمة الرسوم وأثر التضخم فيها، وزيادة نفقات الصيانة في الجامعات بسبب أسعار الطاقة، ثم الأزمة المالية في عامي 2008 و2009 والتي خرجت منها الجامعات وهي تسعى للتوسع، لكنها مولت هذا التوسع عن طريق استدانة قروض كبيرة لا تزال تسددها بأسعار فائدة باهظة تبلغ الآن 6%".

ويشير عبدو إلى أن بعض الجامعات عمدت إلى توسعات لم تكن مخططة جيداً، فافتتحت فروعاً جديدة داخل بريطانيا وفي الخارج، لكنها فوجئت في العام الماضي بتراجع أعداد الطلاب المتقدمين لها.

الطلاب الوافدون على الجامعات البريطانية

مع تجميد رسوم الطلاب المحليين، مثّل الطلاب الأجانب شريان حياة مالياً للجامعات البريطانية على مدى السنوات الماضية. ويرى بعض المحللين الاقتصاديين أن تراجع أعدادهم في السنوات الأخيرة هو أحد الأسباب الرئيسية للأزمة المالية الراهنة.

وبحسب تقرير "الاستمرارية المالية" فإن توقعات الجامعات بتحقيق زيادة نسبتها 35% في عدد الطلاب الأجانب على مدى السنوات الثلاث المقبلة، غير مضمون نظرا لما تسجله إحصاءات تأشيرات الدخول الصادرة من وزارة الداخلية بانخفاض نسبته 16% في أعداد الطلاب المتقدمين للحصول على فيزا للدارسة، إضافة على القيود التي فرضتها حكومة المحافظين بمنع تأشيرة الدخول وحق الإقامة عن أسر الدارسين الأجانب. وثمة مخاوف من انخفاض عدد الطلاب الأجانب بنسبة 61% بحلول عام 2027 وهو ما يعني خسارة إجمالية للجامعات تزيد عن تسعة مليارات جنيه إسترليني.

ويجادل البروفيسور عبدو بأن الرهان على الطلاب الأجانب ضمانا لمالية الجامعات البريطانية ينطوي على بعض الخطورة، نظراً لهشاشة هذه السوق وتحولها إلى ساحة للمنافسة في السنوات الأخيرة: "على سبيل المثال أصبحت الصين، التي كانت من أقوى الأسواق للجامعات البريطانية، منافساً قوياً بعدما أصبح لديها بعض من أفضل الجامعات عالمياً، كما أنّ منطقة الشرق الأوسط التي كانت مصدراً مهماً أيضاً للطلاب الأجانب لديها الآن عدد كبير من أفضل الجامعات، وربما تفضل بعض الأسر المقتدرة إلحاق أبنائها بتلك الجامعات البريطانية المحلية بدلاً من دفعهم للاغتراب، بخاصة في حالة الفتيات".

وبلغ عدد الطلاب الأجانب "غير الأوروبيين" ذروته قبل عامين حين تجاوز 680 ألف طالب، أي حوالى ربع العدد الإجمالي لطلاب الجامعات البريطانية، وقد وفروا عائدات للجامعات بلغت 32 مليار جنيه إسترليني في ذلك العام. وهو ما دفع جهات مختصة من التحذير من إمكانية انفجار تلك "ّالفقاعة" حسب دراسة للجنة متخصصة في مجلس اللوردات عن العام الأكاديمي 2022-2023.

ديون الطلاب في الجامعات البريطانية

ظلت الدراسة الجامعية في بريطانيا مجانية طوال الفترة من 1962 حتى 1998 حين أوصت لجان مختصة بالبدء في تحميل الطلاب بعض تكاليف الدراسة الجامعية كجزء من خطة لتطوير الجامعات وتحسين تنافسيتها عالمياً. وما بدأ برسوم لا تزيد عن ألف جنيه في العام، ارتفع ليصبح 9250 جنيها إسترلينيا في عام 2017. يحصل الطلاب على هذه الرسوم من خلال قروض حكومية تشمل أيضاً قرضاً إضافياً لتغطية نفقات معيشتهم. ويسدد الطلاب هذه القروض بعد حصولهم على وظيفة إذ تستقطع من رواتبهم مباشرة، وتُسقَط بعد خمسة وعشرين عاماً.

إدخال نظام قروض الطلاب كان واحداً من أهداف حكومة العمال تحت قيادة توني بلير لتوسيع قاعدة التعليم الجامعي كي لا يظل قاصراً على الطبقة الوسطى والأسر القادرة على الإنفاق على أبنائها خلال سنوات الدراسة. لكنّ تراجع أعداد المتقدمين للجامعات في الآونة الأخيرة، أثار شكوكاً في إمكانية أن تكون ديون الطلاب، والتي تبلغ في المتوسط 50 ألف جنيه إسترليني وقت التخرج، أحد العوامل المثبطة لا الحافزة.

وتشير الأرقام إلى أن مجموعة الجامعات المتميزة التي تنضوي ضمن ما يسمى "راسل غروب" وتضم 24 جامعة، قبلت 86 ألف طالب بريطاني في عام 2022 بينما بلغ عدد المقبولين 102 ألف طالب في عام 2020.

تقول جوليا إنها حصلت على قرضين جامعيين أحدهما لدراسة البكالوريوس والثاني لدراسة الماجستير، وإن الدين المستحق عليها نظريا هو 48 ألف جنيه إسترليني، لكنه مع حساب الفائدة سيبلغ 68 ألف إسترليني: "كنا صغاراً على فهم معنى تعاملات مالية بآلاف الجنيهات يتعين علينا سدادها بعد التخرج. أعتقد أنّ انتهاء الأمر بدين بهذا الحجم لطالب بعد تخرجه، هو أمر غير مشجع على الالتحاق بالدراسة الجامعية التي يجب أن تكون حقاً مجانياً للجميع".

أما جون الذي تخرج في عام 2020 فيرى أن قروض الطلاب تجسد "شكلاً طبقياً" في التعليم، لأن من يحصلون على المزيد منها هم أبناء الطبقات المحتاجة، التي لا تستطيع دعم نفقات الدراسة لأبنائها وبناتها، فيضطرون إلى الاستدانة من الدولة، ويتخرجون مثقلين بالديون: "أدفع من دخلي الشهري 120 جنيهاً شهرياً لسداد القرض الجامعي، ربما لا يكون المبلغ باهظاً ليؤثر على احتياجاتي الأساسية، لكنني أفترض أنني لو أدخر هذا المبلغ سنوياً سيكون لدي 2500 جنيه، كان من الممكن أن تساعدني في رحلة البحث عن شراء مسكن".

ويرى جون أن ترويج الحكومة في الآونة الأخيرة لالتحاق خريجي المدارس الثانوية بأنظمة التدريب التي توفر لهم وظائف بدلاً من الجامعات هو توجه لحرمان الفئات الأفقر من الجامعة والتوجه إلى البحث عن وظائف توفر لهم دخلاً بعد سنوات من التدريب والعمل برواتب متدنية.

يتفق البروفيسور حافظ عبدو على أن "قروض الطلاب عامل مثبط بالنسبة للمتقدمين للجامعة وأسرهم، بخاصة مع أخذ أزمة تكاليف المعيشة في الاعتبار". ويقول إن دراسة شارك في إجرائها مؤخراً أظهرت عدم الاهتمام بوقع هذه الأزمة على مستوى معيشة الطلاب الذي ينحدر مع ثبات قيمة القروض الفعلية وتزايد التضخم.

رغم ذلك، من المتوقع على نطاق واسع أن تقدم حكومة العمال على زيادة قيمة الرسوم الجامعية، في مسعى منها للتخفيف من الأزمة المالية التي تواجه الجامعات، وهو ما سيعني نظرياً اضطرار الطلاب للحصول على قروض أكبر لسداد تلك الرسوم، وتحمل ديون أكبر عند تخرجهم للالتحاق باقتصاد متعثر لا يضمن الكثير من الوظائف ذات العائد المرتفع.

لا تتوقف حدود الأزمة المالية للجامعات البريطانية إذاً على مداخيل الجامعات، لكنها تمتد إلى الطلاب وأسرهم، وإلى واقع المجتمع البريطاني الذي يجعل الطلاب يجفلون من مغامرة اللحاق بالجامعة وتحمل تكاليف دين مرهق. كما تمتد إلى سوق الوظائف الأكاديمية التي يقول كثيرون إنّها في أسوأ حالاتها مع توجه الجامعات لخفض النفقات تحسباً للأسوأ، وسط تحركات عمالية متكررة من العاملين في تلك السوق بسبب هيكلة الوظائف وأنظمة التقاعد.

كلّ هذه الأزمات تطاول سمعة الجامعات البريطانية العريقة، وتضعها على المحك دولياً ومحلياً، في انتظار رؤية جديدة قد تعيد الاستقرار إلى هذا القطاع الحيوي تاريخياً.

المساهمون