اقتصاد "التعفيش": السوق السوداء تسيطر على سورية

06 مايو 2023
الحرب دمرت آلاف البيوت وشردت أهلها (محمد سعيد/ الأناضول)
+ الخط -

يتحكم في الاقتصاد السوري وأسواقه عدد قليل من التجار المرتبطين بالنظام والمموّلين من البنك المركزي بالعملة الصعبة، وفق مصادر "العربي الجديد"، فيما افتتح سوق مواز لضباط جيش النظام وفصائله ومواليه لضمان الولاء.

كيف تشكلت هذه الأسواق السوداء في البلاد؟

نشطت الأسواق السوداء أو ما أُطلق عليه "الأسواق الحرة" في دمشق وضواحيها الآمنة منذ بدايات الحرب السورية، وازدهرت مع "التعفيش"، أي مقتنيات البيوت التي استولى عليها الجيش والفصائل الرديفة والعصابات.

وتشرح المصادر أن الأسواق السوداء انتشرت في العديد من شوارع الأحياء الجانبية من العاصمة مثل "المزة 86 وعش الورور والزاهرة وبرزة والتضامن ونهر عيشة" ومعظم مدن الريف الدمشقي الآمنة نسبياً مثل "ببيلا والسيدة زينب وجرمانا وقطنا وصحنايا والمطلة".

وتلفت المصادر إلى أن هذا الانتشار وصل إلى حد فرضت هذه الأسواق وجودها في كل مكان، وبدأت تختص مع تنوع وغنى موادها ومواردها في ظل سياسة حكومية قائمة على تجاهل لا بل تشجيع التعفيش في البداية، ثم رعاية هذه الأسواق وإدارتها في مرحلة لاحقة، لتغدو هذه الأسواق جزءاً من اقتصاد البلد إن لم يكن أهم أسواقه.

سرقات متعددة

يقول سائق سيارة نقل كبيرة لـ "العربي الجديد"، طلب عدم الكشف عن اسمه: "كنت أدخل بسيارتي مع مجموعات عسكرية إلى مناطق الاقتتال في المليحة وزبدين وبيت سحم ومعظم البلدات المجاورة لطريق مطار دمشق الدولي، وننقل كل الأثاث والمقتنيات من البيوت إلى محلات وأسواق ومستودعات مدنية وعسكرية وبمرافقة وحماية عسكرية وكان بعضها يُباع مباشرة لتجار مُتفق معهم وبعضها يُخزن".

ويضيف: "مع ازدياد أماكن سيطرة الجيش في هذه المناطق أصبحت معظم حمولتنا أبواب ونوافذ وبلاط وبورسلان وكل تجهيزات المطابخ والحمامات، إلى أن نزح معظم سكان هذه المناطق وبدأنا بنقل حديد الأسقف إلى بلدة "المطلة" جنوب دمشق حيث توجد جبال من الحديد المسحّب من الأسقف قيد التصنيف والتجليس والبيع".

ويسترسل السائق بالقول إن عملهم "كان صعباً وخطراً"، وقد تعرضوا مراراً لعمليات قنص من المجموعات المسلحة، ولكن كان خوفهم الأكبر من الخلافات الطارئة على مناطق النفوذ بين قادة الوحدات العسكرية.

رافقت اشتداد المعارك وتوسع رقعتها على الأراضي السورية أزمات اقتصادية معيشية طاولت معظم المواطنين؛ مقيمين ونازحين، وبات الأثاث المنزلي وتجهيزات البناء حاجة ملحّة في العديد من المدن والأرياف السورية الآمنة نسبياً، في وقت شهد تراجعاً كبيراً في إنتاج المفروشات المنزلية من مصادرها الأهم بلدات "داريا وحمورية وعربين وزملكا وحرستا ودوما" أدى هذا التراجع إلى جانب صعوبات النقل والغلاء إلى تصدر المفروشات والتجهيزات "المُعفشة" الواجهة كسوق رئيسي منافس ومقدمة خطيرة لاقتصاد موازٍ يحكم البلد.

مقدمة للاحتكار

يقول التاجر "هاشم غجري" (مستعار)، أحد أصحاب معارض الموبيليا في حي"برزة" بدمشق، لـ "العربي الجديد"؛ إن عملهم تراجع منذ بداية 2014 إلى حد التوقف أحياناً، في الوقت الذي كانت تنمو فيه بجوارهم أسواق مبيع المستعمل وتزدهر. وما لبثت هذه أن انتقلت من الشارع واستوطنت في صالات ومحال رئيسية ثم بدأت بالتخصص "مفروشات، أدوات منزلية، كهربائية، صحية"، إلى أن بدأت تجمع بين المُستعمل والحديث المُهرب من لبنان أو العراق.

وبهذا لم تعد أسواق شعبية أو سوداء ولم يعد يحكمها منطق الحلال والحرام بل واقع السعر والعوز والضرورة.

ويضيف "غجري": "تدريجياً استحوذت هذه الأسواق على المواد الأكثر طلباً وحاجة واشتغلت بعضها بالاحتكار وفي فرض العديد من الأسعار، إلى أن أصبحت تحدد أسعار السوق وتفرض سياستها الاقتصادية".

ساهمت السلطة في إنعاش هذه الأسواق وتنوّعها وازدهارها، ودخلت بها كشريك ربحي بالإضافة إلى كونها المورد والضامن لاستمرارها، محققة في هذا عدداً من الأهداف، لعل أهمها بالتوازي مع سياسة التهجير والتغيير الديمغرافي المتّبعة، إنتاج آلية تفكير هجومية مرتبطة بالغنائم وتعويمها بين أطراف النزاع، بالإضافة إلى دعم شرائح اجتماعية وربطها بالأجهزة الأمنية لتقوم بدور القوات الرديفة.

وبالتالي أنشأت السلطات شبكات تجارة سوداء موالية ومرهونة اقتصادياً وسياسياً للأجهزة الأمنية التابعة للنظام السوري.

يشرح أحد أفراد فصيل ما يسمى "الدفاع الوطني" لـ "العربي الجديد"، طلب عدم الكشف عن اسمه لضرورات أمنية؛ أنه اشتغل بكل أنواع التعفيش والتهريب منذ بداية الحرب؛ وما زال إلى الآن.

وتدرج عمله من بسطة صغيرة لبيع الدخان في مدينة "جرمانا" شرقي دمشق ودراجة نارية للنقل، إلى محل في أحد الطرقات ومستودع ومعرض وسيارة كبيرة لنقل البضائع وعدد من العمال، وكذلك تعامل بداية مع موردين مجندين في الجيش وعناصر أمنية بتجارة أدوات منزلية صغيرة مثل "شاشة بلازما أو مروحة وأشياء يمكن حملها على الدراجة" ثم مع ضباط من معظم الاختصاصات، وبلغت تجارته معهم حجم الصفقات الكبيرة في فترة الاشتباكات المحيطة بدمشق.

وكان بعضهم يرسل له صور فرش المنزل كاملاً قبل أن "يُعفش" ويساومه على السعر قبل التحميل.

ويضيف: "أما بعد توقف المعارك وتراجع سوق "المُعفش" انطلق سوق المحروقات والتهريب من لبنان ودول الجوار، وهذا السوق ركائزه الأجهزة الأمنية والمؤسسات العامة وشبكاته تبدأ من الحدود الدولية والداخلية بين المحافظات أو المؤسسات مثل شركات المحروقات مروراً بالحواجز، وصولاً إلى الأسواق".

توسّع السوق السوداء

بعد توقف تجارة "التعفيش" استحدث النظام أنواعاً من التجارة الأخرى باستغلال أزمات اقتصادية ناتجة عن مآلات الحرب السياسية والاقتصادية أو بفعل وتخطيط هادف ومنظم، فازدهرت الأسواق السوداء بأنواع من التجارة الدائمة مثل المحروقات أو آنية بحسب الأزمات التي تخلقها حكومة النظام السوري والمستوردون الشركاء، مثل تجارة الأدوية وحليب الأطفال.

أحد أصحاب مستودعات الأدوية في دمشق يشرح لـ "العربي الجديد" أنه لا يزال يشتري ويوزع للصيدليات أنواعاً كثيرة من الأدوية المُهربة خاصة أدوية مرضى القلب والضغط والدم ومرضى السرطان، بالإضافة إلى أنواع كثيرة من المتممات الغذائية والفيتامينات وأغذية وحليب الأطفال، على الرغم من عدم شمولها بالحظر الدولي على سورية.

وعن أزمة حليب الأطفال خلال الأشهر القليلة الماضية وتوفره بعد ارتفاع أسعاره يقول الصيدلي: "إنها أزمة مُفتعلة من الموردين المستحوذين على حصرية الاستيراد النظامي أو المهرب للمادة.

فقد احتكروه في مستودعاتهم ومنعوا تهريبه ثم رفعوا أسعار نوعين منه "نان وكيكوز"، ليلائم انخفاض قيمة الليرة السورية، واستوردوا الباقي بطرق غير نظامية". ويستذكر الصيدلي في ختام حديثه أزمة حليب الأطفال في لبنان الناتجة عن تهريبه إلى سورية.

يقول الناشط المدني هادي عزام لـ "العربي الجديد" إن جزءاً كبيراً من الحوالات النقدية يصدر للخارج بعد تداوله في السوق السوداء مقابل صفقات سيارات لبنانية مسروقة أو أسلحة أو مهربات متنوعة، منها الدولار.

ويعتمد عدد كبير من السوريين على التحويلات المالية الخارجية، ويقدر الإعلام الرسمي حجم الحوالات المالية الواردة من المغتربين إلى ذويهم في سورية بطرق نظامية وغير نظامية بـ7 ملايين دولار يومياً، فيما يرفع اقتصاديون التقديرات إلى ما يزيد على 10 ملايين دولار يومياً، نتيجة الانتشار الواسع للسوق السوداء.

إذ بالتوازي مع عروض الأسواق السوداء العلنية والمباشرة كان هناك أسواق أكثر سوءاً وأقل انفتاحاً إلى العلن. انطلقت مع بدايات الحرب ونشطت في تجارة السلاح والدولار والسيارات المسروقة أو الواردة من لبنان بالإضافة إلى الاتجار بتهريب البشر، وأخذت شكلاً من التنظيم والتخصص والإدارة.

وعلى الرغم من ادعاء السلطة محاربة هذا السوق وإيقاف العاملين به بحجة تأثيره السلبي على أمن البلد واقتصاده؛ إلا أن مصادر "العربي الجديد" تعتبر أن هذه المحاولات ليست سوى حالة من التناحر بين أرباب هذا السوق.

المساهمون