استمع إلى الملخص
- تعود جذور المشكلة إلى تراجع إنتاج الغاز وصعوبة تدبير بدائل، مما زاد من استهلاك محطات التوليد وأدى إلى زيادة انقطاع التيار الكهربائي، مهددًا برفع أسعار الوقود والكهرباء والإبقاء على معدلات التضخم مرتفعة.
- تواجه الحكومة المصرية تحديات في إدارة الأزمة بطريقة "إطفائية"، مع محاولات لإعادة إمدادات الغاز تدريجيًا. تسببت الأزمة في تقليص الإنتاج وتأخير توفير الأسمدة للمزارعين، مع تعدد العوامل المسببة للأزمة وتعقيدات متزايدة بتوجيهات صندوق النقد الدولي.
زاد النقص الحاد في إمداد الغاز من صعوبات حياة المصريين، كما أدى إلى التأثير سلبا على العديد من القطاعات الاقتصادية، ومنها مصانع أسمدة وكيماويات رئيسية توقفت مؤقتا عن العمل خلال اليومين الماضيين، ما دفع نحو تراجع أسهمها وتذبذب مؤشر البورصة الرئيسي إيجي إكس، واضطراب حركة أسواق العملات، التي تشهد ارتفاعا جديدا للدولار أمام الجنيه، ما يزيد الضغوط على الاقتصاد وقدرة المواطنين على مواجهة أعباء المعيشة.
جاء التذبذب في إمدادات الغاز بتراجع تاريخي في إنتاجه، وصعوبة تدبير البدائل الرخيصة على وجه السرعة، مقرونا بزيادة استهلاك محطات التوليد التي شرعت في زيادة فترة انقطاع التيار الكهربائي إلى ثلاث ساعات يوميا.
تثير انقطاعات الغاز والكهرباء أجواء ضبابية، في ظل مخاوف من توجه الدولة لرفع أسعار الوقود والكهرباء ما يدفع إلى بقاء معدلات التضخم في مستويات يقدرها خبراء عند 32% حتى نهاية العام الجاري.
تواكب انقطاعات التيار فترة امتحانات الثانوية العامة، التي تحدد مصير نحو 500 ألف طالب في ظل حاجتهم إلى الكهرباء على مدار الساعة، وتأمين المدارس من انقطاع التيار، بما يؤمن سهولة أداء الامتحانات، التي ستجرى السبت المقبل وتستمر ثلاثة أسابيع.
تبدو حكومة تسيير الأعمال مضطربة في مواجهة أزمة، يؤكد مراقبون أنها كانت قادرها على حلها بأبسط السبل، لعلمها المسبق بكل أسبابها، وإمكانية حلها قبل أن تستفحل بهذه الطريقة. يشير المراقبون إلى أن الحكومة تعمل على مواجهة الأزمات على طريقة "رجل الإطفاء"، بدلا من التخطيط المسبق، لعدم حدوثها.
عودة إمدادات الغاز
تبدو تحليلات الخبراء متسقة مع ما اتخذته وزارة البترول لإعادة إمدادات الغاز تدريجيا إلى مصانع الأسمدة والبتروكيماويات صباح أمس الخميس، بعد انقطاع تام استغرق 24 ساعة، حسب بيان رسمي لوزارتي الكهرباء والبترول.
أدى تذبذب الإمدادات إلى إحجام الشركات عن العمل بكامل طاقتها، إذ فضل أغلبها تعليق عمليات الإنتاج لحين استقرار الإمدادات بشبكات الغاز، التي تعرضت لحالة اضطراب مدة يومين، في ظاهرة امتدت إلى كافة الشركات الرئيسية في البلاد دفعة واحدة، وأدت إلى خروجها عن العمل وتراجع قيمة أسهمها في البورصة خلال جلسات الأربعاء والخميس.
قررت شركات مصر لإنتاج الأسمدة "موبكو "وأبو قير للأسمدة والإسكندرية للأسمدة "أليكس فرت" وسماد مصر "إيجيفرت" تعليق عمليات الإنتاج مدة 24 ساعة إضافية، في حين فضلت شركتا سيدي كرير للبتروكيماويات وكيما وقف تشغيل المصانع لحين استقرار مستويات ضغط الغاز بشبكات التوزيع، لمدة غير معلومة.
تعد الشركات الست الأكبر إنتاجية، والتي تشارك الدولة بحصص أغلبية في ملكيتها، المصدر الرئيسي لتوفير الأسمدة للمزارعين المحليين والمدعومة من وزارة الزراعة والمخصصة للأسواق الدولية.
أعلن مسؤولون في شركتي "كيما" بأسوان وسيدي كرير للبتروكيماويات استغلال فترة التوقف عن العمل لإجراء عمليات الصيانة الطارئة في المصانع لحين استقرار عمليات إمدادات الغاز. يعكس قرار الشركتين وجود مخاوف من نقص حاد بإمدادات الغاز مع استمرارها مدة زمنية طويلة، حيث جاء القطع التام للإمدادات مواكبا لقرار وزارة البترول تخفيض 30% من واردات الغاز لمصانع الأسمدة اعتبارا من أول يونيو/ حزيران الجاري، لمواجهة الشح الشديد في إمداد الغاز من الشبكات المحلية، وتوجيه أغلب الإنتاج لمحطات توليد الكهرباء.
أثار قرار الشركات تقليص عمليات الإنتاج مخاوف الشركات المنتجة لمكملات صناعة الأسمدة والبتروكيماويات، حيث تعتمد صناعات المخصبات الزراعية على الخامات الأولية التي تنتجها شركات الأسمدة.
مخاوف الفلاحين
أعرب نقيب الفلاحين حسين أبو صدام عن مخاوفه من استمرار أزمة تدفق الغاز إلى مصانع الأسمدة والمخصبات، وتأثيرها على توفير احتياجات المزارعين من الأسمدة، خاصة المدعومة من الدولة، التي يستخدمها الفلاحون في زراعات الأرز والذرة والقطن بالإضافة إلى احتياجات مزارع الفاكهة والخضر إلى الأسمدة للموسم الصيفي.
حذر أبو صدام في تصريحات صحافية من تأخير صرف مستحقات المزارع من الأسمدة، لخطورتها على إنتاجية المحاصيل الصيفية.
يشير خبراء إلى أن الحكومة تزيد من تعقيد مشكلة انقطاعات الغاز والكهرباء بعدم التزامها بالشفافية في مواجهة الأزمة، مشيرين إلى أنها أعلنت عن العودة إلى قطع التيار الكهربائي لترشيد استهلاك الطاقة من الغاز والكهرباء لتوجيه الفائض إلى الأسواق الدولية بهدف زيادة دخل الدولة من الدولار، بما يساعدها على شراء الأغذية ومستلزمات الإنتاج من الخارج، ليفاجأ الجمهور بتصريحات جديدة بأن الحكومة تواجه أزمة تدبير عملة، وأن قطع التيار الكهربائي مدة ساعة يوميا يوفر 300 مليون دولار شهريا.
تراجع حاد في إنتاج الغاز
يرجع خبير اقتصاديات الطاقة محمد فؤاد الأزمة إلى عدم وضع الحكومة خطة مسبقة لسد احتياجات البلاد من الغاز والوقود اللازم لها، رغم معرفتها التامة بحجم المشكلة منذ بداية عام 2023، حيث علمت بتراجع إنتاج حقل "ظهر" الذي كان يورد 40% من احتياجات البلاد من الغاز، وفقد نحو ثلثي طاقته بنهاية عام 2022.
أوضح فؤاد لـ"العربي الجديد" أنه كان الأولى للحكومة التي توافرت لديها السيولة المالية من صفقة بيع "رأس الحكمة" أن توجه جزءاً من قيمة الصفقة إلى شراء شحنات غاز عبر صفقات "التحوط" بما يمكنها من شراء ما تريده بأسعار رخيصة، بدلا من الشراء الفوري للصفقات الذي رفع قيمة شحنات أزمة الصيف إلى ما يزيد عن مليار دولار عن أسعار البيع بصفقات التحوط.
وتعرض مشروع "الثريا" لإنتاج الغاز في المياه العميقة التابع لشركة "إيني" للجفاف، مع توقف صادرات الغاز المسال، بما دفع الشركة إلى البحث عن مصادر بديلة في آبار منطقة شمال الحماد البحرية قبالة دلتا النيل، عطلها عدم التزام الحكومة بسداد مستحقات شركات البترول، حيث تراكمت إلى نحو 6.8 مليارات دولار، ثلث قيمتها يخص الشركة الإيطالية.
أكدت وكالة ميس "Mees" لبحوث البترول والطاقة، في تقرير أصدرته في يوليو/ تموز 2023، تراجع إنتاج مصر من الغاز إلى أدنى مستويات في ثلاث سنوات عند خمسة مليارات و841 مليون قدم مكعبة يوميا في مايو/ أيار 2023، مشيرة إلى حاجة وزير البترول لإنفاق 1.8 مليار دولار خلال عامي 2024 و2025، لتجنب عجز وشيك في الغاز. فشلت الحكومة في إقناع الشركات الدولية بضخ تلك الاستثمارات، متأثرة بتقارير سلبية عن تراجع التصنيف الائتماني للاقتصاد وشح الدولار وضبابة المشهد الجيوسياسي في المنطقة.
يشير خبراء إلى أن إنتاج الغاز يتجه نحو الانخفاض بشكل ثابت مع تراجعات متتالية حدثت على مدار الأشهر التسعة الماضية.
استغلت إسرائيل شح الغاز المحلي في زيادة صادراتها إلى السوق المصرية إلى نحو مليار قدم مكعبة يوميا، لم تساعد الحكومة في مواجهة الأزمة خلال وقت ذروة الطلب على الكهرباء والغاز خلال أشهر الصيف.
هجمات الحوثيين
يؤكد خبير اقتصاديات الطاقة محمد فؤاد أن اضطراب حركة الشحن في البحر الأحمر أوقف مرور شحنات الغاز وسفن تحويل الغاز من سائل إلى غاز مرة أخرى، ليضخ بالشبكات المحلية، القادمة بسعر أرخص من قطر وجنوب آسيا، بما يدفع المسؤولين إلى البحث عن بدائل في السوق الأميركية وشمال غرب أوروبا، ذات التكلفة الأعلى.
أدت هجمات الحوثيين على السفن المتجه إلى إسرائيل والمملوكة للدول الداعمة للعدوان الإسرائيلي على غزة إلى تحويل 1.2 مليون برميل يوميا من النفط إلى المرور برأس الرجاء الصالح، كما ارتفعت قيمة شحنات الغاز القادمة من قطر جراء زيادة تأمين المخاطر أو عبورها عبر جنوب أفريقيا بدلا من التوجه مباشرة إلى قناة السويس.
دفع العجز في ورادات الغاز الحكومة إلى محاولة شراء ما بين 15 إلى 20 شحنة من الغاز المسال من الولايات المتحدة والجزائر، لسد احتياجات قطاعي الكهرباء والصناعة، وإمدادات المنازل، خلال الفترة من يونيو/ حزيران إلى نهاية أغسطس/ آب المقبل، مع استمرار لجوئها إلى قطع التيار الكهربائي عن المستهلكين مدة تصل إلى ثلاث ساعات يوميا.
عودة إلى المازوت والفحم
يرجع رئيس الشعبة العامة للموارد البترولية بالغرفة التجارية حسن نصر تكرار أزمة انقطاعات الغاز والبترول إلى ارتفاع معدلات الاستهلاك اليومي، بالتوازي مع زيادة درجات حرارة الجو بمعدلات غير مسبوقة، متأثرة بتحولات المناخ، مشيرا إلى أن هذه الظواهر تدفع المواطنين إلى زيادة استعمال مكيفات الهواء بالمنازل والمكاتب وأماكن الإنتاج.
يوضح نصر أن معظم إنتاج محطات الكهرباء تعمل بالغاز مشيرا إلى عودة بعضها لاستعمال المازوت لمواجهة العجز في الإمدادات، ورغبة الحكومة في إحداث توازن بين احتياجات المصانع وخاصة الأسمدة، وتدبيره لمحطات الكهرباء والاستخدامات المنزلية والنقل، مؤكدا أن انخفاض تكلفة تلك المنتجات تسبب في مشكلة كبيرة للحكومة التي تجد صعوبة في تغيير منظومة الدعم السلعي للوقود والكهرباء، بما يمكنها من توفير الأموال اللازمة لشراء احتياجاتها من الخارج.
قال نصر لـ"العربي الجديد" إن أزمة الوقود دفعت شركات الإسمنت إلى التوسع في تشغيل أفرانها بالفحم، وتوسع شركات أخرى في توليد الطاقة الجديدة والمخلفات لتدبير احتياجاتها من الطاقة والكهرباء.
تسكب تعليمات صندوق النقد الدولي النار على أزمة الغاز والكهرباء، لتزيدها توحشا في عيون المستهلكين، حيث يصر الصندوق على إنهاء الحكومة دعم الوقود والكهرباء خلال عامين، ما يعني إلزامها بمضاعفة أسعار فواتير الغاز والكهرباء والمحروقات، على الأقل، قبل انتهاء عام 2025.