استمع إلى الملخص
- تعتمد فرنسا بشكل كبير على الطاقة النووية، حيث أنتجت 62% من احتياجاتها الكهربائية من المفاعلات النووية. تواجه شركة "إي دي إف" ضغوطاً مالية كبيرة، مما يزيد الغموض حول مستقبل قطاع الطاقة في ظل الحاجة إلى استثمارات كبيرة.
- رغم التحديات، تظل فرنسا أكبر مصدر للكهرباء في أوروبا، لكن الخلافات السياسية حول الموازنة تهدد بتقليص الصادرات، مما يزيد من توتر أسواق الطاقة الأوروبية ويضعف القدرة التنافسية للصناعة.
تنذر الاضطرابات السياسية والصعوبات المالية في فرنسا بتعقد مشاكل الطاقة في أوروبا، التي تجاوزت بصعوبة بالغة الصدمة التي خلفها انحسار إمدادات الغاز الروسية في أعقاب غزو روسيا أوكرانيا في 2022، إذ تتزايد مخاوف الأوروبيين من تضرر إمدادات الكهرباء الرخيصة القادمة من فرنسا.
وصف العديد من المراقبين السقوط الدراماتيكي لحكومة ميشيل بارنييه في فرنسا، قبل أيام، بأنه ليس مجرد أزمة سياسية، بل أيضاً أزمة اقتصادية ومالية. بينما يشير ذلك إلى انقسامات سياسية كبيرة لن تلتئم قريباً وستقوض النمو، وتؤثر على الإنفاق على قطاعات حيوية ومنها إنتاج الكهرباء، بما يؤثر على تكاليفها وأسعارها النهائية.
ووفق الخبير الاقتصادي الدولي محمد العريان، في مقال نشره في وكالة "بلومبيرغ" الأميركية، فإن حالة عدم اليقين السياسي الحالية في فرنسا لا تخلو من تداعيات اقتصادية، مرجحا أن تؤدي التطورات السياسية الأخيرة إلى تثبيط الاستثمارات وجعل الأسر أكثر حذراً في إنفاقها، ما يُخفض من معدل النمو الاقتصادي الضعيف أصلاً، وستزيد تكاليف الاقتراض المرتفعة من تدهور القوة الدافعة للاقتصاد في البلاد.
ويقع قطاع الطاقة في قلب هذه الصعوبات، ما يجعل التداعيات تتخطى حدود ثاني أكبر اقتصاد في الاتحاد الأوروبي، لتصل إلى منطقة اليورو التي تعاني بالفعل من انهيار الحكومة الائتلافية في ألمانيا، وتشهد مخاوف متزايدة من عودة الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترامب إلى البيت الأبيض في العشرين من يناير/كانون الثاني المقبل والذي تحمل سياسة الرسوم الجمركية الواسعة التي يتبناها مخاطر لاقتصادات المنطقة.
وسمحت تكاليف الإنتاج النووي المنخفضة في فرنسا بتوفير أسعار كهرباء أقل بكثير من جيرانها، مما أتاح تصدير الفائض إلى الأسواق المجاورة بأسعار تنافسية، لكن هذا الوضع قد لا يدوم كثيراً في ظل الصعوبات المالية التي تواجهها باريس. وتُعد فرنسا أكبر مُصدر للكهرباء في أوروبا، حيث تشكل نحو 60% من صافي صادرات الكهرباء في عام 2024 حتى الآن، وفقاً لخدمة بيانات الطاقة "energy-charts.info".
وأسهمت صادرات الكهرباء الفرنسية القياسية هذا العام في توفير إمدادات أساسية من الطاقة النظيفة والرخيصة لجيرانها، في وقت تعاني فيه المنطقة من تكاليف طاقة مرتفعة، وضعف في النمو الاقتصادي، وفوضى سياسية متزايدة.
وتتمتع فرنسا بمزيج كهرباء متنوع ومنخفض الاعتماد على الوقود الأحفوري بصورة أكبر من غيرها على مستوى الاتحاد الأوروبي، إلى جانب قدرتها التصديرية العالية للكهرباء على مستوى القارة. لهذا السبب، تستحوذ خطط فرنسا المحلية في تحسين البنية التحتية لشبكة الكهرباء على اهتمام واسع من قبل الأوروبيين، وليس المواطنين الفرنسيين فحسب، لما تحققه من منافع محلية ذات امتدادات أوروبية واضحة وبتكلفة أقل بالنسبة للأوروبيين، بحسب تحليل لشركة أيحاث الطاقة "ريستاد إنيرجي".
وأنتجت فرنسا 62% من احتياجات الكهرباء من خلال المفاعلات النووية خلال العام الماضي، ما يعادل 293 تيراواط/ساعة. ورغم الاعتماد الكبير على هذه الإمدادات من المفاعلات النووية إلا أنها تعد أقل حصة منذ عدة سنوات، بعد أن كانت 68% خلال عام 2021. وما زال توليد الكهرباء من المفاعلات النووية في فرنسا أقل من مستوياته المسجلة قبل جائحة فيروس كورونا التي تفشت في 2020. وتعدّ فرنسا من أقل الدول الأوروبية في توليد الكهرباء من الوقود الأحفوري، ما يجعل مزيج الكهرباء الفرنسي مميزا على مستوى القارة، بسبب اعتماده الشديد والمتراكم على الطاقة النووية منذ عقود طويلة.
غير أن الاضطرابات السياسية في فرنسا تثير تساؤلات جدية حول قدرة البلاد على الحفاظ على مستويات إنتاجها العالية من الكهرباء وصادراتها. وترتبط شركة المرافق الفرنسية "إي دي إف" بشكل وثيق بالنظام السياسي للبلاد، حيث استحوذت الحكومة عليها في عام 2022 بعد تراكم ديون بلغت نحو 10 مليارات دولار. وتُشغل الشركة أسطول الطاقة النووية الفرنسي، الذي يوفر نحو ثلثي الإنتاج في البلاد، مما يجعلها ذات أهمية كبرى. إلا أن الأعباء الضخمة لديون الشركة زادت من الضغوط على الالتزامات الحكومية المتصاعدة، وهو عامل رئيسي في انهيار الحكومة.
وبوصفها كياناً مملوكاً للدولة، تتمتع "إي دي إف" بإمكانية الوصول إلى رأس المال بأسعار تفضيلية. وقد كانت الحكومة تخطط، الشهر الماضي، لتقديم قروض دون فوائد للشركة لتغطية تكاليف بناء مفاعلات نووية جديدة. لكن قطاع الطاقة يُنظر إليه أيضاً بوصفه مصدراً محتملاً لتمويل الحكومة، إذ اضطر رئيس الوزراء المستقيل ميشال بارنييه للتخلي عن مقترحات فرض ضرائب جديدة على إمدادات الكهرباء قبل أيام من الإطاحة به. والآن، يضع الفراغ السياسي مستقبل قطاع الطاقة بأكمله في حالة من الغموض، حيث تحتاج "ي دي إف" إلى استثمارات مستمرة وكبيرة، للحفاظ على أسطولها النووي المتقادم، وشبكات توزيع الكهرباء.
وتعد أسعار الجملة للكهرباء في فرنسا أقل بنحو 25% من مثيلتها في ألمانيا وهولندا، وأقل بنحو 45% من أسعار إيطاليا، وفقاً لبيانات شركة "إل إس إي جي". وقد شجَّع هذا الفارق الكبير في التكلفة تجار الكهرباء الفرنسيين على تصدير الفائض لتحقيق أرباح ضخمة. لكن أي تخفيضات قسرية في إنتاج الطاقة بفعل النزاعات السياسية حول الموازنة قد تؤدي سريعاً إلى تقليص الصادرات. ولا توجد أي دولة أوروبية قادرة على تعويض نقص الكهرباء الفرنسية بتكاليف منخفضة مماثلة.
وخلال الأشهر الـ11 الأولى من عام 2024، صدَّرت فرنسا نحو 84 تيراواط/ ساعة من الكهرباء إلى الدول المجاورة، وفقاً لـ"energy-charts.info". ويزيد هذا الرقم بنسبة 85% عن الفترة نفسها من عام 2023، وهو الأعلى منذ أن بدأ تسجيل البيانات في عام 2015.
ويشير الخلاف السياسي الذي دفع بارنييه إلى حافة الهاوية، حول الموازنة السنوية لعام 2025، إلى أنه سيكون من الصعب الآن معالجة المشكلات الاقتصادية في البلاد. فمع عجز بنسبة 6.2% من الناتج المحلي الإجمالي، تعاني فرنسا بالفعل من أسوأ اختلال في الموازنة في منطقة اليورو، وهو أمر سيتفاقم بعدما تُركت البلاد من دون حكومة فاعلة أو موازنة للعام المقبل للسيطرة على المالية العامة الفرنسية المتعثرة.
وفي الأشهر الأخيرة، تراكمت المشكلات المالية على فرنسا. وكانت البلاد تكافح ديوناً وعجزاً متضخمين، نتيجة للإنفاق الحكومي الجامح منذ عمليات الإغلاق بسبب وباء كورونا. فمع عجز قفز إلى 6.1% من الناتج الاقتصادي، من 5.5% العام الماضي، أصبحت البلاد الآن في ضائقة مالية لا تقل سوءاً عما شهدته اليونان وإسبانيا وإيطاليا. كما قفزت ديون البلاد إلى أكثر من 3.2 تريليونات يورو (3.36 تريليونات دولار)، أو أكثر من 112% من الناتج المحلي الإجمالي للبلاد.
وكان العجز قد بدأ بالفعل في الاتساع خلال الفترة الرئاسية الأولى للرئيس الحالي إيمانويل ماكرون، بعد أن أثارت انتفاضة السترات الصفراء الشعبية في عام 2018 بسبب زيادة ضريبة البنزين المقترحة احتجاجات على مستوى البلاد من قبل الناس الذين يكافحون من أجل تلبية احتياجاتهم. وسمح ماكرون بضخ مليارات الدولارات في شكل إعانات وحوافز لقمع الدوامة الاجتماعية. وبعد عامين، ضرب وباء كورونا العالم. وتعهد ماكرون بفعل "كل ما يلزم" لدعم الاقتصاد الفرنسي، وضخ مئات المليارات أيضا لمساعدة الشركات. وفي الوقت الذي بدأ فيه الاقتصاد يتعافى، أدى غزو روسيا لأوكرانيا في فبراير/ شباط 2022 إلى ارتفاع أسعار الطاقة، ما انعكس سلباً على النمو.
وبينما لا يوجد تهديد وشيك لصادرات فرنسا الضخمة من الطاقة، إلا أن عدم الاستقرار السياسي في أكبر دولة مصدرة للكهرباء في أوروبا يجعل أسواق الطاقة الأوروبية أكثر توتراً، وفق تقرير لنشرة "اويل برايس" الأميركية. من المتوقع أن تخسر الصناعة الأوروبية المزيد من قدرتها التنافسية مع ارتفاع أسعار الطاقة، وارتفاع أسعار الغاز الطبيعي، والمخاوف بشأن إمدادات الغاز هذا الشتاء، مما يزيد من حالة عدم اليقين بشأن استخدام المصانع وسط ارتفاع التكاليف.
ويزيد ارتفاع تكاليف الطاقة من حالة الارتباك الأوروبية في مواجهة السلع الصينية وكذلك الأميركية، حيث تضغط إدارة ترامب المقبلة من أجل تقليص العجز التجاري مع الاتحاد الأوروبي، ما يضع صناعاتها في وضع غير منافس مقارنة بالولايات المتحدة أو آسيا وحتى الشرق الأوسط.