يتزايد القلق الأوروبي من تمدد الصين على صعيد الأنشطة التجارية والمالية، لكن فك الارتباط بثاني أكبر اقتصاد في العالم يبدو محفوفاً بالكثير من المخاطر.
فعلى الرغم من تزايد النبرة المحذرة من تنامي الاعتماد على الصين من قبل الشركات الأوروبية يبدو أن الاستثمارات الصينية تثير أكبر قلق لدى بعض الأطراف الأوروبية، وخصوصا تلك التي تربطها بكين بمبادرة "الحزام والطريق" المعروفة بطريق الحرير.
ويقدم النموذج الإيطالي في علاقته بالصين أحد أهم الأمثلة على مدى تغلغل بكين في القارة العجوز. فقبل نحو 4 سنوات أصيب الأوروبيون والأميركيون بدهشة حين رحب رئيس الوزراء الأسبق، جوزيبي كونتي، بالرئيس الصيني شي جين بينغ، والتوقيع على اتفاقية انضمام روما إلى طريق الحرير، من خلال ضخ الاستثمارات ووعود بالمساهمة في توسيع البنية التحتية في البلد الصناعي الغربي الهام. وبصورة خاصة ركز الصينيون على تطوير مينائي جنوة وتريست شمال البلاد، إلى جانب تعزيز التعاون الاقتصادي بشكل عام.
في ذروة جائحة كورونا، التي ضربت إيطاليا بقسوة شديدة ربيع عام 2020، استغلت بكين الضربة، وأرسلت تباعاً بعض المساعدات، بتغطية إعلامية ودبلوماسية أقلقت الغربيين. ولكن مع تزايد توتر علاقة الغرب مع بكين، عبرت رئيسة حكومة اليمين الإيطالية، جورجيا ميلوني، عن رأي مختلف لعلاقة بلدها بالصين، وبمشروع مبادرة الحزام والطريق، منذرة بالانسحاب من العلاقة التي تزايدت في السنوات الأخيرة.
وكانت ميلوني قد وصفت في وقت سابق من مايو/أيار الجاري، انضمام إيطاليا إلى مشروع طريق الحرير بأنه "خطأ كبير". واعتبرت أن مشاركة بلدها في مبادرة الحزام والطريق يجب "التعامل معها بعناية كبيرة". ويؤشر ذلك إلى أن إيطاليا في ظل حكم ميلوني، المتراجعة كثيراً عن انتقاداتها اللاذعة قبل الوصول إلى الحكم للاتحاد الأوروبي، سيتعين عليها تحقيق توازن غير سهل بين الحلفاء التقليديين في الغرب والشريك التجاري الرئيسي في الشرق. فبلدها، الصناعي الكبير، هو البلد الغربي الوحيد الذي انضم إلى المشروع الصيني "طريق الحرير".
وتسبب قرار روما قبل سنوات الدخول في علاقات شراكة اقتصادية مع الصين بانتقادات كثيرة من واشنطن، ومن أطراف أوروبية ترى أن الصين من خلال مشاريعها وضخ المال تحاول "دق إسفين" بين الاتحاد الأوروبي وواشنطن.
على الرغم من أن حلفاء واشنطن المقربين في أوروبا يبدون قلقهم من قدرة الصين على اختراق أوروبا، إلا أنه على المستوى الأوروبي ثمة انقسام بين دول الاتحاد الأوروبي حول ما إذا كان يتعين زيادة التجارة مع الصين أو قطع العلاقة وخفض الاعتماد على العملاق الآسيوي المهتم بصورة رئيسة بتعزيز النفوذ السياسي والاستراتيجي من خلال تعزيز مواقعه الاقتصادية-المالية في القارة.
عثرات قطع الطرق إلى روما
ومنذ أن انطلق مشروع طريق الحرير في 2013، حيث ربطت الصين علاقات اقتصادية وثيقة مع آسيا وأفريقيا وباشرت بمشاريع ضخمة أغلبها في الطرق والموانئ، تسعى عبر شركاتها وأموالها إلى ربط تلك الطرق بأوروبا. وفي الوقت ذاته ينظر الأوروبيون المتوجسون حيال أهداف بكين إلى تلك الاستثمارات على أنها محاولات لإنشاء نظام دولي أكثر تمحوراً حول الصين، لاكتساب ميزات اقتصادية وسياسية في الدول المشاركة بطريق الحرير عموماً. فحتى اليوم تلقت نحو 150 دولة استثمارات وقروض صينية في هذا السياق، وفي 2019 انجذبت إيطاليا إلى الكعكة على أمل الحصول على نصيب منها.
أمل رئيس الحكومة الإيطالي آنذاك، كونتي، أن تؤدي العلاقة بالصين وضخ أموالها في شرايين اقتصاد بلده مساعدته على بث حياة جديدة في الاقتصاد المتعثر والمثقل بالديون ولتحريك عجلاته الصدئة. حكومة روما عولت على ضخ الاستثمارات الصينية لتعويض ما واجهته من صرامة القواعد المالية في منطقة اليورو، التي لم تسمح لإيطاليا بفتح بوابات اقتصادية على مصراعيها. وبرغم الامتعاض الذي صدر عن بعض الشركاء الأوروبيين أصر كونتي في ذلك العام على أن "ارتباط إيطاليا بطريق الحرير الجديد يمثل فرصة لبلدنا".
عمليا تعتبر الصين انضمام روما إلى مبادرتها الحزام والطريق بمثابة انتصار كبير، لاسيما أن بعض دول الاتحاد الأوروبي، بما في ذلك اليونان والمجر وبولندا وإسبانيا، وغيرهم، باركوا المبادرة الصينية بشكل عام.
ومع ذلك، ومنذ أن تولى جو بادين رئاسة الولايات المتحدة مطلع 2021 بدأت بعض الأطراف الأوروبية تضغط على المكابح، متأنية في الاندفاع نحو شراكات مع الصين. فمع اتضاح تبني واشنطن سياسة أكثر حدية ومواجهة مع بكين تزداد أيضا الخلافات الأوروبية حول كيفية اتباع النهج الأميركي، ومخاطر الانجرار إلى حرب باردة اقتصادية بين بكين وواشنطن.
ويبدو أن تصريحات رئيسة الوزراء الإيطالية عن تراجع بلدها عن علاقته الاقتصادية الوثيقة ببكين ليست بمعزل عن نحو 12 شهراً من جهود وزارة الخارجية والبيت الأبيض الأميركيين، وباستغلال الحالة الناشئة بعد غزو روسيا لأوكرانيا، لأجل تشكيل خطاب أوروبي أكثر حدية من الصين.
فقادة الاتحاد الأوروبي، رغم الزيارات إلى بكين ربيع العام الحالي، باتوا خلال عام من الحرب الروسية في أوكرانيا أكثر حديثاً عن "تقليل الاعتماد على اقتصاد نظام سياسي منغلق ومستبد"، كما بات يوصف نظام الحزب الشيوعي الصيني في أكثر من لغة دبلوماسية وصحافية في أوروبا.
إذا، النغمة الأوروبية المختلفة عن "الشراكة" باتت تضغط على سياسيين، ومنهم ساسة إيطاليا وغيرهم في القارة العجوز، لقراءة الصين كمنافس يستخدم ورقته الاقتصادية لكبح جماح الدول الأوروبية التي تقف عقبة في طريق نفوذها.
إلى ذلك أيضا لا يمكن فصل تصريحات رئيسة الحكومة الإيطالية، ميلوني، بأنه "ليست لدي رغبة سياسية في تفضيل التوسع الصيني في إيطاليا أو أوروبا"، وهو ما تكرر على لسان عدد من ساسة الائتلاف اليميني الحاكم، بما في ذلك وزارة الدفاع الإيطالية، التي كانت أكثر توجسا حيال أهداف بكين في بلدها منذ بدأت "دبلوماسية كورونا" في مطارات عسكرية إيطالية.
ومع ذلك تتسق تصريحات ساسة روما والمواقف المستجدة لرئيسة المفوضية الأوروبية، أورسولا فون دير لاين، باعتبار أن هدف الحزب الشيوعي الصيني هو "تغيير منهجي في النظام العالمي"، وأكدت مراراً أن دول الاتحاد الأوروبي يجب أن تتصرف بشكل "أقل اعتمادا على سلاسل التوريد الصينية". ويبدو أن الإيطالية ميلوني حريصة أيضا على التأكيد على ولاء روما للولايات المتحدة وحلف شمال الأطلسي والاتحاد الأوروبي.
الحلول في بروكسل
الانسحاب الفوري من العلاقة مع بكين ليس بدون أثمان، حيث حذرت مراراً العديد من المنظمات الصناعية الإيطالية من أنه يجب على المرء الحذر بشأن استفزاز الصين، ومخاطر خسارة الشركات الإيطالية، التي أنهكها وباء كورونا وأضعفتها العقوبات على روسيا، إذ من الممكن أن تعاقبها بكين بما يزيد من ضعفها وخسائرها.
فمن الواضح أن الاستثمارات الصينية زادت في السنوات الأخيرة في عدد من دول الاتحاد الأوروبي، بما فيها هولندا وألمانيا وفرنسا، وهي لم تنضم إلى طريق الحرير. ويضع هذا وغيره حكومة جورجيا ميلوني أمام وضع صعب، تأمل في نهايته أن يقوم الاتحاد الأوروبي بنفسه بتعويض بلدها عن خسائرها إذا ما ذهبت بالفعل إلى إلغاء انضمامها إلى مبادرة الطريق الصينية.
أمام إيطاليا وأوروبا عام كامل لاتخذا قرار بشأن الاتفاقية الصينية الإيطالية، التي تُجدد بشكل تلقائي في مارس/آذار 2024. ويقدم النموذج الإيطالي صورة عن معضلة العلاقة الغربية الصينية، حيث تجد أوروبا لزاماً عليها الخوض فيها، لتقرير ما إذا كان يتوجب المضي بعلاقات اقتصادية مع بكين بمستوى ما ذهبت إليه إيطاليا وغيرها أو تقليلها إلى حد أدنى، كما تعبر المفوضية الأوروبية.
فليست ميلوني وحدها اليوم على محك الاختيار بين البراغماتية والمصالح الاقتصادية والمثالية، بل أغلبية الساسة في أوروبا يجدون أنفسهم تحت سقف ذات المعضلة، وقد اتفق أغلبهم في 2019 على وصف دخول بكين إلى السوق الإيطالي بمثابة "حصان طروادة" بهدف خلخلة وحدة موقف حليفي ضفتي الأطلسي، أميركا والقارة العجوز.
ويرى في السياق الباحث في سياسات أوروبا والصين في المركز الدنماركي للسياسات الدولية، ألبرت بوفيه رودا، أن "ميلوني تتجرأ أكثر على إنهاء قصة العلاقة مع الصين بتغطية من واشنطن". وهو برأي زميله من المركز الباحث في العلاقات الأوروبية الصينية أندرياس فوربي "واضح جدا لساسة أوروبا وأميركا أن مساعي بكين تهدف إلى شق وحدة صف الطرفين"، مشيرا في تصريحات لـ"العربي الجديد" أن بكين تحاول عبر الوعود المالية واستغلال تعثر بعض الدول الأوروبية ترسيخ نفوذ سياسي واستراتيجي بعيد المدى.
بالنسبة للباحث رودا فإن "الأفكار اليمينية المتشددة عند ميلوني وكراهيتها للشيوعية تلعب دوراً في اقترابها أكثر من الغرب والابتعاد عن الشرق". لكن في عالم الاقتصاد والسياسة لا يكفي أن يكون صناع القرار ذوي أفكار بعينها، بل يحتاجون إلى تقديم بدائل لا تضر بمصالح دولهم.
وبالتالي ينشأ في المعسكر الأوروبي تكتلاً يخشى تحول العلاقة ببكين إلى اعتمادية تشبه اعتماد القارة على الطاقة الروسية قبل غزو أوكرانيا، وهو يحظى بشعبية كبيرة لدى الرأي العام في عدد من الدول.
ويراهن هؤلاء على بحث أوروبي مشترك للخروج من مأزق العلاقة ببكين، حيث تدعم المفوضية الأوروبية، تحت شعار "استقلالية أكثر"، كما أكدت رئيسة المفوضية فون دير لاين مؤخراً، وضع دول الاتحاد الأوروبي هدفا لتقليل الاعتماد على الصين في سياق ما سمته "عدم المخاطرة"، وبصورة خاصة البحث عن بدائل للشركات الأوروبية فيما يتعلق بالمواد الخام القادمة من الصين، وخصوصا لبناء التوربينات والسيارات الكهربائية والتقنيات المتعلقة بالتحول الأخضر.
بدائل في أفريقيا وأميركا اللاتينية
وفي ذات الاتجاه يأتي تنامي خطاب بعض الأطراف الأوروبية، بما في ذلك روما، عن استعادة العلاقة الاقتصادية ـ التجارية وتعزيزها بكل من أفريقيا وأميركا اللاتينية بهدف قطع الطريق على استخدام بكين خطوط سلاسل التوريد كسلاح في المواجهة الاقتصادية بين الغرب والصين. بالإضافة إلى ذلك فإن التصور المطروح من المفوضية الأوروبية هو تعزيز الشراكة مع أميركا وكندا واليابان واستراليا، وذلك لتقليل اعتماد الأوروبيين على الموردين الصينيين.
ويرى أندرس كريستيان أوفرفاد كبير المحللين في مركز أبحاث أوروبا Think Tank Europe أن اتفاق الأوروبيين على وضع السذاجة جانبا في علاقتهم السابقة ببكين دونه عقبات. ويشير في هذا الاتجاه إلى دولاً مثل المجر وإسبانيا وألمانيا وفرنسا، عدا إيطاليا، ما تزال تحافظ على علاقات تجارية خاصة مع الصين.
بل حتى دولة صغيرة مثل الدنمارك تجد صعوبة في الانفصال عن التصدير إلى الصين، والتي تقدر بنحو 100 مليار كرونه (14.4 مليار دولار) في 2022، ما لم تجد بدائل على المستوى الأوروبي. ولا يمكن بطبيعة الحال إغفال أن تجارة الاتحاد الأوروبي مع الصين نمت بشكل مطرد على مدار العشرين عاماً الماضية، وفي العام الماضي وحده، وفقا لمركز أبحاث أوروبا، مثلت 12% من إجمالي تجارة الاتحاد.
وبالتالي، تجد أوروبا نفسها في مواجهة استقطاب بين معسكرين، واحد يرغب في استمرار نيل نصيبه من كعكة العلاقة الاقتصادية مع بكين، وآخر يرغب بخفضها ومن بينهم دول البلطيق (ليتوانيا واستونيا ولاتفيا) وبولندا والتشيك، اللذان تغير موقفهما من بكين بعد الغزو الروسي لأوكرانيا وعدم إدانة الصين للغزو. وأشار إلى النقطة الأخيرة الرئيس التشيكي بيتر بافيل، داعيا إلى "سياسة أوروبية مشتركة تجاه الصين"، والإجابة على سؤال ما إذا كانت بالفعل شريكا بناء للاتحاد الأوروبي.
وفي المجمل، أيا كانت الخطوة الإيطالية القادمة فإن أوروبا تواجه مشكلة تحديد استراتيجية واضحة في علاقتها بالصين، وخصوصا إذا ما تصاعدت المواجهة على المستوى التجاري بين الشريك الغربي الأميركي وبكين، وعدم السماح لها بالتفرد بدول ناديه. فتجربة الليتوانيين ماثلة حين فرض عليها الصينيون مقاطعة اقتصادية بعد أن قرروا السماح لتايوان في العام الماضي فتح سفارة في العاصمة فيلنيوس.