تشهد العلاقات الإيرانية الروسية، المزيد من التقارب الاقتصادي في الوقت الراهن، في مواجهة الضغوط الاقتصادية الغربية المتمثلة في العقوبات المشددة التي يتعرض لها البلدان، الأمر الذي فتح ساحة أكبر للتقارب بينهما، لا سيما مع شن روسيا حربها على أوكرانيا خلال فبراير/شباط 2022 وتعرّضها لعقوبات أميركية وأوروبية غير مسبوقة.
يعكس هذا التقارب الاقتصادي تعاظم أرقام التجارة الثنائية الإيرانية والزيارات الثنائية المكثفة والتصريحات الإيرانية الروسية عن بحث ملفات اقتصادية عملاقة، مثل تفعيل مشروع ممر "شمال ـ جنوب" الدولي الاستراتيجي، وإلغاء الدولار من مبادلاتهما التجارية.
خلال العامين الماضين، زادت التجارة بين البلدين نحو 80 في المائة، لترتقي إلى 4 مليارات دولار عام 2020، ثم إلى 4.6 مليارات دولار عام 2022.
وتسعى طهران وموسكو إلى رفع الرقم إلى 10 مليارات دولار خلال السنوات المقبلة.
خلال العام الأخير، منحت الزيارات المتبادلة المكثفة لكبار مسؤولي البلدين زخما كبيرا للعلاقات الاقتصادية، وفي آخرها يزور راهنا أيغور لويتين، المساعد الخاص للرئيس الروسي فيلاديمير بوتين، طهران، لإجراء مباحثات اقتصادية بامتياز، وبحث مشروعات اقتصادية كبيرة مع المسؤولين الإيرانيين.
خلال اليومين الأخيرين، التقى مساعد بوتين مع كل من محمد مخبر نائب الرئيس الإيراني، وأمين المجلس الأعلى للأمن القومي الإيراني الأدميرال علي شمخاني، ووزير الطرق وبناء المدن مهرداد بذرباش. وتصدر الاقتصاد أجندة كل هذه اللقاءات.
العنوان الأبرز للمباحثات الاقتصادية للويتين مع المسؤولين الإيرانيين كان بحث استكمال مشروع ممر "الشمال - الجنوب" الذي أصبحت روسيا توليه اهتماما كبيرا خلال العام الأخير، بالتوازن مع التداعيات الاقتصادية للحرب الأوكرانية.
وتستهدف روسيا من الطريق خلق مسارات بديلة للالتفاف على العقوبات الغربية، ووضع خيارات نقل رخيصة أمام الدول الواقعة على طريق هذا المشروع، مقارنة بممرات دولية أخرى مثل قناة السويس، بغية ربط اقتصادها الخاضع للعقوبات باقتصاد هذه الدول، وكذلك لصناعة أوراق اقتصادية قوية في مواجهة الغرب.
و"ممر الشمال - الجنوب" مشروع نقل دولي عملاق، طُرح خلال قمة الاتحاد الأوروبي في العاصمة الفنلندية هلسنكي عام 1992، كالممر التاسع من ضمن عشرة ممرات، ثم وقّعت الدول الثلاث إيران والهند وروسيا عام 2000 الوثيقة الأولى لإنشائه في سانت بطرسبرغ الروسية.
وعام 2016، التحقت دول أخرى بالمشروع، هي: سلطنة عُمان، تركيا، كازاخستان، أرمينيا، قرغيزستان، طاجيكستان، بيلاروسيا، أوكرانيا، سورية، وبلغاريا، إلى جانب الدول المؤسسة الثلاث.
أكبر مستثمر في إيران
في لقاء هو الخامس الذي يجمع بينهما خلال ستة أشهر، التقى مساعد بوتين الخاص، اليوم الأحد، مع النائب الأول للرئيس الإيراني، محمد مخبر، لبحث ملفات التعاون الاقتصادي المشترك، في مقدمتها ملف النقل وممر "الشمال ـ الجنوب". وخلال اللقاء، أعلن لويتين، وفق وكالة "إرنا" الإيرانية الرسمية، عن استعداد موسكو للاستثمار في قطاع النقل.
وخلال يناير الماضي، أعلنت روسيا أنها ستستثمر في إنشاء سكة حديد "أستارا ـ رشت" داخل إيران بطول 162 كليومترا، الذي يعد مشروعا إيرانيا عملاقا على طريق إكمال ممر الشمال - الجنوب، حيث يربط هذا الخط الحديدي مسار الممر داخل إيران من بندر عباس المطل على الخليج جنوبا إلى بحر قزوين شمالا. ومن خلاله أيضا ستصل إيران عبر أذربيجان بروسيا ثم شمال أوروبا.
كما أشار نائب الريس الإيراني، خلال اللقاء مع مساعد بوتين، إلى زيادة الزيارات المتبادلة للوفود السياسية والاقتصادية بين طهران وموسكو، معبرا عن سعادته بالمسار الجيد الذي يقطعه تنفيذ المشاريع المشتركة، ومؤكدا أن "ثمة إرادة ومتابعة جادة" من قبل رئيسي البلدين لتوطيد التعاون الاقتصادي وتنفيذ الاتفاقيات وإزالة العقبات.
وكان وزير الاقتصاد الإيراني، إحسان خاندوزي، قد قال أخيرا، في مقابلة مع صحيفة "فاينانشيال تايمز"، إن روسيا أصبحت أكبر مستثمر في الاقتصاد الإيراني في السنة المالية الماضية، معتبرا أن العلاقات الإيرانية الروسية "استراتيجية".
وكشف خاندوزي عن تلقّي بلاده 4.2 مليارات دولار من الاستثمارات الأجنبية، منها 2.76 مليار دولار، أي ثلثي الحجم الاجمالي، من روسيا.
ووقّعت شركة النفط الوطنية الإيرانية (NIOC) وشركة غازبروم الروسية، خلال يوليو/تموز 2022، مذكرة تفاهم تبلغ قيمتها حوالى 40 مليار دولار، ما يعد أكبر صفقة استثمار أجنبي في إيران في تاريخ صناعتها النفطية.
وجاء هذا الاستثمار فيما أصبحت صناعات إيران في حقول النفط والغاز تدخل طور التهالك منذ سنوات، حيث تحتاج هذه الصناعات إلى ضخ 160 مليار دولار في حقولها النفطية والغازية لتحديثها للحفاظ على قدراتها الإنتاجية ورفع مستواها.
لكن البلاد تواجه مشاكل كبيرة في تمويل عملية تحديث هذه الصناعات واستقدام التقنيات الحديثة، بسبب العقوبات الأميركية، وهو ما دفع السلطات الإيرانية إلى البحث عن حلول عاجلة للاستثمار في القطاعين النفطي والغازي، وتقديم عروض مقايضة النفط والمكثفات الغازية بالاستثمار في هذه القطاعات لقاء تمويلها خلال الفترة الأخيرة.
إنهاء هيمنة الدولار
واليوم الأحد، خلال لقائه مع المساعد الخاص للرئيس الروسي فيلاديمير بوتين، أكد أمين مجلس الأمن القومي الإيراني، علي شمخاني، أن بلاده وروسيا تعملان على إلغاء الدولار في مبادلاتهما التجارية.
وقال شمخاني، وفق ما أوردته وكالة "نور نيوز" الإيرانية المقربة من مجلس الأمن القومي، إن "المسار الذي بدأ لتقليل تأثير الدولار في المبادلات الاقتصادية الإقليمية والدولية، والذي أصبحت تنضم إليه دول كثيرة، سؤدي إلى تراجع هيمنة الغرب على الاقتصاد العالمي إلى أدنى مستوى".
ولفت شمخاني إلى تصدي البلدين المشترك للعقوبات الغربية، قائلا إن "الابتكارات بين البلدين في قطاع المعاملات النقدية والمصرفية لأجل تمويل المشاريع المشتركة، يشكل نموذجا مؤثرا لإفشال العقوبات الغربية غير القانونية".
وأكد شمخاني أهمية تسريع العمليات التنفيذية لاستكمال ممر "الشمال ـ الجنوب"، معتبرا أن ذلك التعاون في مجال النقل أيضا "الجزء المهم" في المشاريع المشتركة.
من جهته، أكد أيغور لويتين، المساعد الخاص للرئيس الروسي، خلال اللقاء مع شمخاني، أن بلاده على استعداد لاستكمال وتنفيذ المشاريع المشتركة في مجال النقل، معلنا في الوقت ذاته، أنها مستعدة أيضا للاسثتمار في مختلف القطاعات الاقتصادية الإيرانية، بما فيها الفولاذ والنفط والبتروكيماويات.
ولفت لويتين إلى وجود "أرضيات مناسبة" لعقد اتفاقيات اقتصادية متعددة الأطراف لاجتذاب بقية دول المنطقة في المشاريع الاقتصادية الرابحة.
وتأتي زيارة مساعد بوتين الخاص الثانية إلى طهران في غضون ثلاثة أشهر، والتصريحات التي صدرت عنه وعن المسؤولين الإيرانيين الذين التقاهم، تأكيدا على صحة ما كشفت عنه "العربي الجديد"، الأربعاء الماضي، نقلا عن مصادرها المطلعة على حيثيات العلاقات الإيرانية الروسية بشأن تكثيف البلدين جهودهما وتحركاتهما المشتركة في الأشهر الأخيرة لبحث آليات للالتفاف على العقوبات الأميركية المفروضة عليهما.
وقالت هذه المصادر إن زيارة أمين مجلس الأمن القومي الإيراني الأدميرال علي شمخاني إلى روسيا في التاسع من فبراير/شباط الماضي شكلت "مرحلة جديدة" في العمل المشترك ضد العقوبات الأميركية والغربية، مشيرة إلى أن شمخاني خلال هذه الزيارة أجرى "لقاء خاصاً" مع الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، استغرق "عدة ساعات".
وأضافت المصادر أن "أحد أهم بنود أجندة اللقاء كان بحث سبل إفشال العقوبات الاقتصادية الأميركية المفروضة على طهران وموسكو".
وتابعت أنه في هذا السياق تم التوصل إلى "توافقات" بين شمخاني والرئيس الروسي، "مثل إلغاء الدولار من التجارة الثنائية، واستخدام متوازن لموارد النقد الأجنبي غير الدولار مثل اليوان والدرهم والروبل والريال في التجارة بين البلدين والتجارة مع دول المنطقة".