إنها الوظائف يا... ذكي

03 نوفمبر 2021
متظاهرون أمام منزل الملياردير جيف بيزوس يطالبون بفرض ضريبة على ثروته(getty)
+ الخط -

بينما كان الرئيس الأميركي جوزيف بايدن يعدّل جدول أعماله ليحضر اجتماع أعضاء مجلس النواب من الديمقراطيين قبيل نهاية الأسبوع الماضي، لوضع اللمسات الأخيرة للاتفاق الخاص بفرض ضرائب جديدة على أرباح الشركات والأثرياء، كانت هناك مواجهة يجري الإعداد لها من جانب الشركات وجماعات المصالح التي تساندها، للتصدي لمحاولات الاقتطاع من أرباحهم لتمويل خطط الإدارة الحالية لإعانة الأسر الأميركية الأكثر احتياجاً.

وأعلن اثنان من أقوى الكيانات الداعمة لقطاع الأعمال الأميركي، وهما غرفة التجارة الأميركية والدائرة المستديرة للأعمال التي تضم مجموعة من الرؤساء التنفيذيين لكبريات الشركات الأميركية، رفضهما تطبيق ضريبة ثروة على أكبر أثرياء أميركا وفرض ضريبة بحد أدنى 15% على أرباح الشركات الكبرى، وهما اللذان يعدان المصدر الأساسي لتمويل خطة الرئيس بايدن المقدرة بنحو 1.8 تريليون دولار حتى الآن.

وأشارت مصادر في المجموعتين إلى مواصلتهما العمل على "إلغاء هذه الضريبة الضارة لمن يخلقون الوظائف للأميركيين"، إذ إنّ التشريع المقترح "يحرم الشركات الامتيازات الضريبية التي تشجع على الاستثمار في المصانع والمعدات"، الأمر الذي يؤدي إلى تراجع عدد الوظائف التي يمكن أن تخلقها تلك الشركات.
المبرر نفسه اتخذه قادة الحزب الديمقراطي، الذين اعتبروا أنّ ما يرغبون في فرضه من ضرائب سيساعد على توفير المزيد من دور رعاية الأطفال، الأمر الذي يسمح للآباء بالخروج للعمل وعدم الاضطرار للبقاء مع أبنائهم، على النحو الذي حدث العام الماضي، بعد ظهور الوباء وانتشاره.
وشغل الأمر نفسُه بال الرئيس السابق دونالد ترامب، حين أقرّ أكبر تخفيض ضريبي في عقود مطلع عام 2018، وتحجج وقتها برغبته في إتاحة المزيد من الأموال للشركات لمساعدتها على زيادة إنفاقها الرأسمالي، من أجل خلق آلاف الوظائف الجديدة.
ولا تُعَدّ الحرب التجارية المستعرة بين الولايات المتحدة والصين بعيدة عن هذا المضمون، إذ كان هدف خلق الوظائف للمواطنين هو الدافع الأكبر وراء اتباع السياسات التجارية الحمائية، وفرض تعريفات جمركية ضخمة على المنتجات الواردة من الصين، كما العديد من البلدان الأخرى، بهدف حماية الشركات الأميركية وخلق المزيد من الوظائف للأميركيين.
ولا يخفى على أحد أن الولايات المتحدة ليست وحدها في ذلك السعي، إذ لا تدخر حكومات الاقتصادات الكبرى جهداً في سعيها الدؤوب لإيجاد فرص وظيفية جديدة للمواطنين.
وقبل ظهور الوباء، ارتفعت شعبية الرئيس ترامب بصورة واضحة، بسبب سياساته التي نجحت في النزول بمعدل البطالة بين الأميركيين إلى أدنى مستوياته في ما يقرب من نصف قرن، مسجلاً 3.5%، والتي اعتبرها الاقتصاديون أقرب ما يكون للتشغيل الكامل.

كان هدف خلق الوظائف للمواطنين هو الدافع الأكبر وراء اتباع السياسات التجارية الحمائية، وفرض تعريفات جمركية ضخمة على المنتجات الواردة من الصين

وترى الأمم المتحدة أن خلق فرص عمل منتجة أمر ضروري للحد من الفقر وتحقيق التنمية الاقتصادية والاجتماعية المستدامة للمواطنين، الأمر الذي دعاها إلى مطالبة الدول بالعمل على توفير وظائف لائقة تضمن تحسين الدخل وتمكين الفقراء، ولا سيما من النساء والشباب والفئات الأكثر احتياجاً.
قبل سنوات، حضرتُ مناظرة في البنك الدولي بين مجموعة من الصينيين ومجموعة من الهنود بهدف تقييم أداء البلدين الاقتصادي خلال العقود الأخيرة، فأجمع أغلب الحضور على تفوق الصين، فقط بسبب ما تمكنت بكين من تحقيقه على صعيد خلق فرص العمل الجديدة، الأمر الذي سبّب رفع مستوى معيشة ملايين المواطنين، وحدّ من الفقر بصورة واضحة.
لم يعد خلق الوظائف رفاهية لكل دول العالم، وفي مقدمتها بالتأكيد دولنا العربية التي عانت لعقود من ضعف الأداء الاقتصادي، باستثناء قطاع النفط والغاز في منطقة الخليج العربي وشمال أفريقيا، الأمر الذي يفرض على حكوماتنا ضرورة وضع هذا الهدف على رأس أولوياتها، والابتعاد عن التقنيات الموفرة للعمالة التي ربما كانت تناسب الاقتصادات الكبرى، لكونها تعاني ندرتها.
وتقول الأمم المتحدة إنّ المنظور الاجتماعي للتنمية يعتبر أن أفضل طريق للتنمية الاجتماعية والاقتصادية والقضاء على الفقر وتحقيق الرفاهية الشخصية يكون من خلال توفير فرص العمل اللائق للمواطنين.
وبعيداً عن التقليد الأعمى لنماذج التنمية المتبعة من الدول الغربية منخفضة الكثافة السكانية التي يرتفع فيها متوسط الأعمار، تفرض وفرة المواطنين في دولنا العربية، وبصفة خاصة في الاقتصادات غير النفطية، التركيز على خلق وظائف أفضل وأكثر إنتاجية، وتحديداً تلك التي يمكن أن تستوعب الأعداد المتزايدة من العاملين الفقراء.
ومن بين العناصر الضرورية لخلق مثل هذه الوظائف، يبرز الاستثمار في الصناعات كثيفة العمالة، خصوصاً الزراعة، وتشجيع التحول في هيكل التوظيف إلى مهن وقطاعات إنتاجية أعلى، ورفع جودة الوظائف في الاقتصاد غير الرسمي. بالإضافة إلى ذلك، يجب أن يكون هناك أيضاً تركيز على تزويد الفقراء في بلادنا بالمهارات والأدوات المطلوبة لتمكينهم من الاستفادة الكاملة من أي توسع في إمكانات التوظيف.

وعلى الرغم من وجود علاقة مؤكدة بين خلق فرص العمل والنمو الاقتصادي، فإن ذلك لا يعني أن خلق الوظائف هو النتيجة الحتمية لتحقيق نمو اقتصادي، وكثيراً ما شهدت دول كبرى وناشئة معدلات مرتفعة من النمو، لكنّها لم تكن مصحوبة بمعدلات التوظيف المنشودة، نتيجة للابتكارات التكنولوجية والتوسع في تطبيقها في مختلف قطاعات الاقتصاد.
ويرى مركز الأبحاث الأميركي غير الحزبي "مركز التقدم الأميركي" أن خلق وظائف عادلة، أي تلك التي توفر أجراً جيداً، ومزايا جيدة، وظروف عمل جيدة، بما في ذلك الحق في حرية تكوين الجمعيات والمفاوضة الجماعية، هو المفتاح لتنمية الطبقة الوسطى وخلق الطلب الكلي المطلوب لتحقيق النمو الاقتصادي.
فمن دون أجر جيد، لا يمكن العمال أن يصبحوا مستهلكين أقوياء، ولا أن يقوموا باستثمارات كبيرة في أنفسهم وأطفالهم ومجتمعاتهم.

وفي الوقت نفسه، إن غياب الوظائف، يحرم الحكومات الضرائب، ويعرقل النمو الاقتصادي، الأمر الذي يدفعها إلى الدخول في دوامة القروض والاعتماد على المساعدات الخارجية، ويقوض استقلالها الاقتصادي والسياسي، وهو ما يعانيه حالياً الكثير من الدول العربية غير النفطية، رغم توافر العنصر البشري الراغب والقادر على العمل لديها.

المساهمون